- أنحـس مركــوب
اشترى رجل دابة من دميرة، فوجد بها عيوباً كثيرة، فحضر إلى القاضي يشكو البائع فقال: أيها القاضي، إني بحكمك راض. اشتريت من هذا الغريم دابة، ادعى فيها الصحة والسلامة، فوجدت بها عيوباً، أعقبتني ندامة. فقال القاضي ما عيوبها؟ فقال: كلها عيوب وذنوب، وهي أنحس مركوب، إن ركبتها رفست، وإن سقتها رقدت، وإن نزلت عنها شردت، حدباء جرباء. لا تقوم حتى تحمل على الخشب. ولا تنام حتى تكبل بالسلب. إن قربت من الجرار كسرتها. وإن دنت من الصغار رفستهم، وإن دار حولـَها أهل الدار كدمتهم. تمشي في سنة أقل من مسافة يوم، الويل لراكبها إن وثب عليه القوم. متى حملتها لا تنهض، تقرض حبلها، وتجفل من ظلها، ولا تعرف منزل أهلها. حرونة ملعونة مجنونة. تقلع الوتد، وتمرض الجسد، وتفتت الكبد، ولا تركن إلى أحد. واقعة الصدر، محلولة الظهر، عمشاء العينين. قصيرة الرجلين. مقلـَّعة الأضراس. كثيرة النعاس. مشيها قليل، وجسمها نحيل، وراكبها بين الأعزاء ذليل، تجفل من الهوى، وتعثر بالنوى، تحشر صاحبها في كل ضيق. وتنقطع به في الطريق، وتعض ركبة الرفيق. فإن قبلها فأكرم جانبه ولا تحوجني أن أضاربه. فضحك القاضي وحكم برَدّها.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
قصة أبي نواس مع شاعر الأندلس
كان عباس بن ناصح، الشاعر الأندلسي، لا يَقْدم من المشرق قادمٌ إلا سأله عمَّن نَجَمَ هناك في الشعر، حتى أتاه رجل من التجار فأعلمه بظهور أبي نواس، وأنشده من شعره قصيدتين؛ إحداهما قوله: جَرَيْتُ مع الصِّبا طَلـْقَ الجُمُوحِ والثانية: أما ترى الشمس حَلـَّت الحَمَلا فقال عباس: هذا أشعرُ الجن والإنس. واللّه لا حبسني عنه حابس. فتجهَّز إلى المشرق. فلما حلَّ بغداد نزل منزِلة المسافرين، ثم سأل عن منزل أبي نواس، فأُرشـِد إليه، فإذا بقصر على بابه الخـُدَّام. فدخل مع الداخلين، ووجد أبا نواس جالسًا في مقعد نبيل، وحولَه أكثرُ متأدّبي بغداد، يجري بينهم التمثل والكلام في المعاني. فسلّم عباس وجلس حيث انتهى به المجلس، وهو في هيئة السفر. فلما كاد المجلس ينقضي، قال له أبو نواس: مَن الرجل؟ قال: باغي أدب. قال: أهلاً وسهلاً. من أين تكون؟ قال: من المغرب الأقصى. وانتسب له إلى قرطبة. فقال له: أَتَرْوي من شعر أبي المخشيّ شيئًا؟ قال: نعم. قال: فانشِدني. فأنشده شعره في العمى. فقال أبو نواس: هذا الذي طَلَبَتْه الشعراء فَأَضَلَّتْه. أنشـِدني لأبي الأجرب. فأنشده. ثم قال: أنشدني لبكْر الكنانيّ. فأنشده. ثم قال أبو نواس: شاعر البلد اليوم عباسُ بن ناصح؟ قال عباس: نعم. قال: فأنشِدني له. فأنشده: فَأَدْتُ القَريض ومَنْ ذا فَأَدْ فقال أبو نواس: أنت عباس؟ قال: نعم! فنهض أبو نواس إليه فاعتنقه إلى نفسه، وانحرف له عن مجلسه. فقال له مَن حضَر المجلس: من أين عرفَته أصلحك اللّه؟ قال أبو نواس: إني تأمّلته عند إنشاده لغيره، فرأيته لا يُبالي ما حدث في الشعر من استحسان أو استقباح. فلما أنشدني لنفسه استَبَنْتُ عليه وَجْمَةً، فقلت: إنه صاحبُ الشِّعر! من كتاب "طبقات النحويين واللغويين" للزُّبيدي الأندلسي.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
ـأعيتـه الحيلــة
يعتبر أبو جعفر المنصور، رجل بني العباس، والمؤسس الثاني لدولتهم، بعد أن انتقلت إليهم الخلافة من بني أمية، وكان إذا دخل البصرة أيام الأمويين، دخل متنكراً متكتمـاً، وكان يجلس في حلقة أزهر السمان العالم الثبت المتحدث؛ فلما أفضت الخلافة إليه، قدم عليه أزهر فرحب به وقربه وقال: ما حاجتك يا أزهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، داري متهدمة، وعليّ أربعة آلاف درهم، وأريد أن أزوج ابني محمداً، فوصله باثني عشر ألف درهم، وقال له: قد قضينا حاجتك يا أزهر، فلا تأتنا بعد اليوم طالباً، فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه، فقال له أبو جعفر: ما حاجتك يا أزهر؟ فقال: جئت مسلماً، فقال: لا والله بل جئت طالباً، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، فاذهب ولا تأتنا بعد اليوم طالباً ولا مسلماً. فأخذها ومضى؛ فلما كان بعد سنة أتاه، فقال له: ما حاجتك يا أزهر فقال: أتيت عائداً. فقال: لا والله بل جئت طالباً، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، فاذهب ولا تأتنا بعد اليوم طالباً ولا مسلماً ولا عائداً، فأخذها، وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما حاجتك يا أزهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، دعاء كنت سمعتك تدعو به جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: الدعاء الذي تطلبه مني غير مستجاب، فإني دعوت الله به ألا أراك، فلم يستجب لي. وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، وتعال إذا شئت، فقد أعيتنا الحيلة فيك.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
أبو حنيفة وتلميذه أبو يوسف
مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أستاذه أبو حنيفة مرارًا. فلما صار إليه آخر مرة، رآه ثقيلاً، فاسترجع، ثم قال: لقد كنتُ أُؤَمّله بعدي للمسلمين، ولئن أُصيبَ الناسُ به ليموتَنّ علمٌ كثير. ثم رُزق أبو يوسف العافية، وخرج من العِلَّة. فلما أُخبِر بقول أبي حنيفة فيه، ارتفعت نفسُه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسـًا في الفقه، وقصـَّر عن لُزوم مجلس أبي حنيفة. وسأل أبو حنيفة عنه فأُخبر أنه عقد لنفسه مجلسًا بعد أن بلغه كلام أستاذه فيه. فدعا أبو حنيفة رجلاً وقال له: صـِرْ إلى مجلس أبي يوسف، فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قَصَّار ثوبًا ليصبغه بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء، وأنكره. ثم إن صاحب الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مصبوغًا، أَلَه أجرُه؟ فإن قال أبو يوسف: له أجره، فقل له: أخطأت. وإن قال: لا أجرَ له فقل له: أخطأت! فصار الرجل إلى أبي يوسف وسأله، فقال أبو يوسف: له الأجرة. قال الرجل: أخطأت. ففكر ساعة، ثم قال: لا أجرة له. فقال له: أخطأت! فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة. فقال له: ما جاء بك إلا مسألةُ القصَّار. قال: أجل. فقال أبو حنيفة: سبحان اللّه! من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسًا يتكلم في دين اللّه، لا يُحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟! فقال: يا أبا حنيفة، علِّمني. فقال: إنْ صبغه القصار بعدما غَصَبه فلا أجرة له، لأنه صبغ لنفسه، وإن كان صبغه قبل أن يغصبه، فله الأجرة، لأنه صبغه لصاحبه. ثم قال: مَن ظن أن يستغني عن التعلُّم فَلْيَبكِ على نفسه. من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي.
والله أعلم
مواقع النشر (المفضلة)