بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحَدَّث أحد الإخوة قائلاً . .
كنتُ أسير بسيارتي في أحد أحياء مدينتنا العامرة ، أجول ببصري ذات اليمين وذات الشمال ، أرقبُ ماجدَّ فيها ، وأتأمَّل أحوال أهلها ، وفجأة ، دراجة هوائية تخرج من أحد الممرات ، يقودها فتى في السابعة من عمره ، وفي لمح البصر ، ترتطـــــــــــم بسيارتي ، لأفيق على صوت ( المكابح ) التي أخذت تصرخ منهكة وجلة .
لم تكن هذه مفاجأتي ، فلقد حمدت الله بما هو أهله ، واسترجعت مستذكراً قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عنه بها حتى الشوكة يشاكها ) ( رواه البخاري ومسلم ) ، وبفضل الله سَلِمَ الفتى ، فلم تكن الإصابة إلا في الدرَّاجة التي أصابها كسر تحتاج معه إلى تغيير .
المفاجأة التي أذهلتني هي ذاك الفتى ، ذو السبع سنوات ، خرج إليَّ بعد أن رأى درَّاجته محطمة ، وهو في غاية الغضب والضيق ، فتقدَّم إليَّ صائحاً :
ما الذي صنعت هداك الله !! ألا تُبصر الطريق حَفِظك الله !! لقد حَطَّمتَ دراجتي سامحك الله !!
أحقاً ما سَمِعَت أذناي ! هذا الفتى يدعو لي بالهداية والحفظ والمغفرة من الله ، وهو في غاية ضيقه وغضبه وحنقه علي ، هذا الفتى الذي أصيب في درَّاجته الغالية عليه بسوء ، لم يُصَب في مفرداته وأدبه ، إنه ليس كبعض أقرانه الذين يستصحبون مع ضيقهم المفردات السلبية ، والتعاملات غير الأخلاقية .
أقبلتُ إليه مبتسماً ، فخوراً بمثله ، معجباً بأخلاقه ، مهدئاً من روعه ، شكرته على هذه المفردات الغاليات ، سألته : عجيب أمركَ يا فتى ، أقرانكَ حين غضبهم ، تقطر ألسنتهم سوءاً ، وأنت ما شاء الله ، تبارك الله ، تقطر شهداً وعسلاً وصفى .
فأجابني ، هذا ما علمنيه أبي ، فهو إذا ضاق بنا ذرعاً ، واشتد غضباً ، أرسل إلينا هذه الدعوات الطيبات ، فاعتادت ألسنتنا على ذلك ، فطلبتُ منه التقاء والده ، وحينها : أخبرته بما حدث ، وشكرته على حسن تربيته لولده ، وكان ذلك سبباً في علاقة طيبة مع هذا البيت المبارك .
أما تدري أبانا كلُّ فرعٍ ، يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ، على ما كانعوَّده أبوه
نعم ، إنها دعوة لكل أب كريم ، ولكل مُربٍ فاضل ، ولكل من كان محل اقتداء ؛ ( كلُّ فرعٍ ، يجاري بالخطى من أدبوه ) ، مثال رائع ، خصال حميدة ، خَلَفُ مبارك ، إنه امتداد لذكرنا ، ورصيد في خزائن حسناتنا بإذن الله ، ورقي في أساليب تربيتنا لمن كانوا تحت أيدينا ، نعم ، إنها دعوة لتطهير ألسنتنا من المفردات السلبية ، والعبارات المبتذلة ، لتصحو أسماع أبنائنا على دعوات صالحات ، ولتكن تنبيهاتنا على أخطائهم بمفردات لطيفات ، وليكن تحفيزنا لهم بالمثل الشامخات .
إن كل مفردة ، سلبية كانت أو إيجابية ، نرسلها إلى فلذات أكبادنا ، لن تذهب بعيداً ، ستبقى في ذاكرته ، متوارية أحياناً ، وظاهرة أحياناً أخرى ، ولكنها في الأزمات ، تخرج على لسانه ، لتُعَبِّر عن مكنون ذاته ، وأسلوب تربيته ، ورصيد مفرداته ، فهل يمكن أن نتعامل مع هذه المفردات السلبية تعاملنا مع الأوساخ العالقة في ملابسهم !؟ هل يمكن أن نعمل على إزالتها فور اكتشافنا لها !؟ هل وفَّرنا العلاج الناجح في بيوتاتنا لهذه المفردات الدخيلة على مجتمعنا المبارك !؟ هل يمكن أن يكون لنا برامجاً عملياً في هذا الشأن !!
لنتأمل بعض هذه الوسائل :
1-الاستقصاء عن مصدر الألفاظ السلبية التي علقت بلسان أولادنا ، فعادة الطفل أنه يُحاكي المجتمع المحيط به ( أسرته القريبة ، المدرسة ، الجيران ، إلخ ) ، والعمل على منع اختلاط الطفل بمصدر هذه الألفاظ .
2-الإكثار من تكرار مفردات إيجابية بصورة مُشوِّقة للطفل ، مع عدم التعليق على مفرداته السلبية مادامت في بدايتها ، أما إن تعلَّقت بلسانه فترة طويلة ، فيُظهر له عدم الرغبة في سماع هذه المفردات ، وأن الله لا يرضى عنها ؛ لأنها ليست من فعل الصالحين ، مع عدم الاستعجال في قطف الثمرة .
3-تشجيع الطفل على نطقه بالمفردات الإيجابية ، ومكافأته عليها ، مع بيان أنها تستجلب مرضاة الله ، وأنها من صفات الصالحين .
4-إشغال الطفل بمهارات أو مفردات أو برامج تُنسيه مفرداته السلبية ، ليحل محلَّها ثمرات إيجابية تفيده في حاضره ومستقبله .
5-إذا لم تفلح هذه الخطوات خلال ( 15 ) يوماً من بدء هذا العلاج ؛ يتم التنبيه كما سبق ، ويؤدب بعدم التحرك من مكان محدد قرب أسرته ، لمدة تتراوح من ( 3 – 10 ) دقائق حسب مرحلته العمرية ، كما يمكن حرمانه من شيء من محبوباته إن لم تنفع معه هذه الخطوات ، على أن يكون ذلك بتدرج ، وبأسلوب تربوي حكيم .
وفي المقابل يتم تحفيز الطفل على مفرداته الإيجابية ، وتأكيدها لديه ، مع مكافأته عليها ، فإنها علامة رجولة ، وخطوة في طريقه الصحيح ، كما ينبغي إحاطته بسياج من التربية القويمة منذ نعومة أظفاره ، وخصوصاً جارحة اللسان ، فالظن بمن أعْتُنِيَ بتقويم لسانه منذ حداثة سنة ، أن يكون مدعاة ولاشك لاستقامة قلبه وإيمانه ، جاء في ( السلسلة الصحيحة 6 / 822 ) ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) .
ومن الخطوات العملية ، ما يلي :
1-إلحاقه بِحِلَق تحفيظ القرآن الكريم ، أو مدارس تحفيظ القرآن منذ نعومة أظفاره ، وكذا متابعة حفظه لشيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وشيء من أشعار العرب ، وأبيات الحكمة ؛ لنيل بركة الحفظ ، ولتقويم لسانه .
قال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ( ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بك؛ فالحسن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركتَ، وعلِّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفه، ولا تُخرجهم من علم إلى غيره حتى يُحكِموه؛ فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم ) ، ولما دفع عبد الملك وُلْده إلى الشعبي يؤدبهم قال: ( علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، وحسِّن شعورهم تشتد رقابهم، وجالس بهم عِلية الرجال يناقضوهم الكلام ) .
2-أن يشغل لسانه بذكر الله ، ويعودهم على ذلك ، ويتابعهم ( أذكار الصباح والمساء ، وأذكار الدخول والخروج ، وأذكار ما بعد الصلوات ) ، فإنها حافظة للمرء ، مشغلة لسانه عما يسوء ، مقَرِّبة إياه لمولاه الكريم .
3-تعويده ألا يتكلَّم إلا عند الحاجة ، فيكون في حديثه جلبُ منفعة ، أو دفع مضرَّة ، كما ينبغي تعويده على تجنب الفاحش من الحديث ، وألا يستمع إلى مالا يليق سماعه ، قال الشاعر : ( وزن الكلام إذا نطقت فإنما ، يبدي عيوب ذوي العقول المنطق ، ومن الرجال إذا استوت أحلامهم ، من يستشار إذا استشير فيطرق ، حتى يحيل بكل واد قلبه ، فيرى ويعرف ما يقول فينطق ) ، وجاء في أدب الدنيا والدين : ( اقْتَصِرْ مِنْ الْكَلاَمِ عَلَى مَا يُقِيمُ حُجَّتَك، وَيُبَلِّغُ حَاجَتَك، وَإِيَّاكَ وَفُضُولَهُ فَإِنَّهُ يُزِلُّ الْقَدَمَ، وَيُورِثُ النَّدَمَ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: فَمُ الْعَاقِلِ مُلَجَّمٌ إذَا هَمَّ بِالْكَلاَمِ أَحْجَمَ، وَفَمُ الْجَاهِلِ مُطْلَقٌ كُلَّمَا شَاءَ أَطْلَقَ ) .
4-اصطحابه إلى مجالس الرجال ، وتشجيعه للمشاركة في أحاديثهم المناسبة إذا رأى في ذلك حاجة ، ومساعدته لمصاحبة المنتجين الناجحين ، واستعراض قصص المؤثرين الفاعلين الناجحين من سلفنا الصالح ، وخصوصاً من هم في مثل سِنِّه ، وتأكيد اقتدائه بهم في مسيرته ، والمباعدة بينه وبين قنوات ضياع الأوقات ، أو صحبة أصحاب الهمم الخائرة ، والأنفس الحائرة .
5-تكنيته بما يُحب من كُنى ، والتعامل معه بثقة وتقدير ، واحترام ذاته ورأيه ، مع تجنيبه ( الضرب ) ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكذا ( المفردات المُحَقِّرة ) ، فإنها هدم لشخصيته ، وضياع لثقته بنفسه ، جاء في المغني : ( سُئِلَ أَحْمَدُ ، عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ قَالَ : عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ ، وَيَتَوَقَّى بِجُهْدِهِ الضَّرْبَ ، وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبْهُ ) .
وأخيراً لتكن لنا في أنبياء الله تعالى ، إبراهيم عليه السلام ، وزكريا عليه السلام ، أسوة حسنة ، فقد ذكر القرآن الكريم دعواتهم لذرياتهم بالصلاح ، قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ) ( إبراهيم / 35 ) ، وقال تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) ( إبراهيم / 40 ) ، وقال تعالى على لسان زكريا عليه السلام : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ( آل عمران / 38 )
مواقع النشر (المفضلة)