السلام عليكم ورحمة وبركاته
أنين الأطفال اليتامى
هل يليق بأسرة التوحيد أن تكون الأم متخلية؛ عن واجب التربية، والأب جدًا مشغول؛ بالمشروب والمأكول؟ وهل يرضى الله سبحانه أن تصبح مهمة الأب في البيت أن يكون موردًا للمال، ودور الأم الانشغال خارج البيت بالسوق والأعمال؟ حتى ضج الأولاد صارخين إلى أبيهم قائلين:
يا والدي كأننا سكانُ في أحَدِ الفنادقْ
صِرْنا نعيشُ حياتَنا ما بين خادمةٍ وسائقْ
كانت لنا أمنيَّةٌ أن نلتقي والجوُّ رائق
ونراكما في بيتِنا يا والدي ولَوْ دقائق
والأب لا يستجيب لهذه الصرخات، فقد علمه أهل الفساد أن سعادة الأولاد، في جمع المال وتأمين بيت في البلاد، وكذلك الأم قد علمها أبواها أن تحافظ على السلاح في يدها، فلربما طلقها زوجها أو غدر بها أو مات عنها فلا تجد نفسها في الشارع والله المستعان، ولقد مَلَّ الشاعر شوقي من هذه الحياة البائسة ففاضت قريحته بعد أن قلقت راحته فقال آسفا:
ليس اليتيم من انتهى
أبواه
من هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا
إن اليتيم له تجد أُمًّا تَخَلْ
لَت في الحياة أو أبا مشغولا
نعم إن اليتيم الذي فقد حقا والده بموته، وهذا قد أوصى الله تعالى به؛ فهو في الناس ذليل ضعيف كسير، ما أسرع أن تحنو عليه قلوب المحبين للخير، الراغبين في الأجر، لأنهم يعلمون أن أباه قد واراه التراب. أما مَنْ يُرى له أبوان يدخلان ويخرجان، يغدوان ويروحان، يُلبسان أولادهما أنيق الثياب وهم عراةٌ من خير الثياب، ولباس التقوى ذلك خير فمثل هؤلاء لا يلتفت أحد إليهم مع غفلة أبويهم عنهم.
إن رعاية الأبناء ليست طعامًا وملبسًا وشرابًا وحسب، إنما رعايتهم تربيتهم على الفضائل وصحبة الأخيار، ووقايتهم يوم القيامة عذاب النار، وكذلك بث الحنان بين جوانحهم وترطيب قلوبهم بالعاطفة الرحيمة، ولا يكون ذلك إلا من أب رحوم وأم رءوم.
فالأب يرحم ضعف أولاده، والأم تترأم وتتعطف على ولدها، وإن أساس رحمة الأولاد الخوف عليهم يوم التناد، يوم يولي الناس مدبرين ما لهم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد.
أيها الموحدون من آباء وأمهات ينبغي أن تكونوا قد خرجتم من رمضان، بنية العمل والإحسان، وإتباع الحسنة بأختها، ومن أعظم الأعمال رعاية النشء رعاية إسلامية "وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم .
{(حسن) صحيح الجامع عن ابن عمرو}
ولا تضييع أكثر ولا أعظم من أن يهمل الأبوان تربية الأولاد فيهلكوا مع الهالكين.
طفلنا المسلم
نتابع معك رحلتنا مع أبناء السلف الذين حفظوا الحديث بعد القرآن وجلسوا لتلقي العلوم الشرعية في سن مبكرة، وقد وقفنا في عدد رجب السابق عند الحديث عن ابن شاذان، ونكمل معك إن شاء سيرة هؤلاء الأطفال العظماء:
7 ابن اللبان:
العلامة أبو محمد عبد الله..... ابن عالم أصبهان النعمان بن عبد السلام التيمي.
عظَّمهُ الخطيب وقال: كتبنا عنه، وكان أحد أوعية العلم، ثقة وجيز العبارة مع تدين، وعبادة وورع بَيِّن، سمعته يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وأُحضرت مجلس ابن المقرئ ولي أربع سنين.
قال الخطيب: لم أر أحسن قراءة منه، أدرك رمضان ببغداد فصلى التراويح بالناس، ثم أحيا بقية الليل صلاة، فسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلا ولا نهارًا.
{سير أعلام النبلاء (17-654}
الله أكبر؛ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها {فاطر:2}. له أربع سنين من العمر ويجلس في مجلس العلماء، ويحفظ القرآن حتى ختمه في الخامسة من عمره المبارك. فلا غرابة أن لا يضع جنبه في رمضان ليلا ولا نهارًا.
8 أبو القاسم التيمي:
ومَثَلٌ عظيم آخر هو: التيمي الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي التيمي الملقب بقوام السنة، صاحب الترغيب والترهيب وغير ذلك، ولد سنة 457.
قال أبو القاسم: وسمعت العلم وأنا ابن أربع سنين.... {تذكرة الحفاظ (4-1277)}
9 ابن كرامة:
ابن كرامة الإمام المحدث الثقة أبو جعفر محمد ابن عثمان بن كرامة، حدث عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا وغيرهم، ويحيى بن صاعد ومحمد بن مخلد والسراج وجماعة. قال أبو حاتم وغيره: صدوق. قال: قرأت على علي بن محمد الفقيه وجماعة سمعوا عبد الله بن عمر ولي أربع سنين.
{سير أعلام النبلاء (12-296)}
10 أبو عمر القاضي:
أمَّا أبو عمر القاضي الإمام الكبير.. ابن إسماعيل ابن عالم البصرة حماد بن زيد، كان يذكر أن جده لقنه حديثًا فحفظه وله أربع سنين؛ والحديث عن وهب بن جرير عن أبيه عن الحسن قال: لا بأس بالكحل للصائم.
قال الخطيب: هو ممن لا نظير له في الأحكام عقلاً وذكاءً واستيفاءًا للمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة. {سير أعلام النبلاء (14-555)}
11 منصور بن عبد المنعم الفراوي:
قال ابن نقطة: كان شيخًا ثقة مكثرًا صدوقًا، سمعت منه صحيح البخاري، وصحيح مسلم وسمَّعه مرارًا، ورأيت سماعه بالمجلد الأول والثاني والثالث بصحيح مسلم في سنة ثمان وعشرين وهو ابن أربع سنين وخمسة أشهر. انتهى.
فهؤلاء خمسة علماء من الأحد عشر الذين ذكرتهم؛ كلهم سمع العلم وحضر مجالسه في سن أربع سنوات، فابن اللبان، وأبو القاسم التيمي، وابن كرامة، وأبو عمر القاضي، ومنصور بن عبد المنعم. إنها حجة الله على الناس، فإن الذي لا ينشأ في عبادة الله، ومن لم يتعلم العلم في الصغر، قد حُرِم خيرًا كثيرًا، وفاته من العلم وافر الحظ.
12 الخطيب البغدادي:
وهذا الخطيب الإمام الأوحد، العلامة المفتي الحافظ الناقد، محدث الوقت أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي صاحب التصانيف وخاتمة الحفاظ، كان أبوه أبو الحسن خطيبًا بقرية درزيجان، فحض ولده أحمد على السماع والفقه فسمع وهو ابن إحدى عشرة سنة وارتحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة، وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وإلى الشام وهو كهل، وإلى مكة وغير ذلك، وكتب الكثير.
{سير أعلام النبلاء (18-270)}
فهل رأينا كم أضعنا من أعمارنا وأعمار أبنائنا.
وهل عرفنا أننا نهدر ثروة غالية بدعوى أن الأولاد صغار؟
نعم قد لا يتيسر في كثير من البلاد تلقي العلم والرحلة إلى العلماء في زمننا هذا بنفس الصورة التي كانوا عليها هؤلاء السلف، لكن لا يعني هذا التخلي عن طلب العلم الشرعي كليةً أو إهماله، أو ترك حلقات تحفيظ القرآن الكريم والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا {العنكبوت:69} فعلى الآباء الاجتهاد والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.
والله المستعان. والحمد لله رب العالمين.
مواقع النشر (المفضلة)