لم يكن يدر بخلدي يوماً ،أنني سوف أهجر ذاك
المكان الذي كانت كل ساحاته مباحة لي ، لطالما عانق جنون طفولتي بهرجها
ومرجها .. كانت ذرات ممره الرملي الطويل تنحني على وقع خطواتي
المسرعة إلى الداخل، وجدرانه شاهدة على طقوس يومية كنت أفعلها غير
آبهة بالنتائج ، غرفة بمنتصف الممر كانت تبهرني بطيورها المختلفة أقف لحظات
طويلة أمامها أشاغب من بداخلها حتى تثور فتتأهب بكامل قواها لتواجهني
وعندما يتقدم ذكر البط فاتحاً فاهه أهرول نحو باب الحديقة وأغلقه استعداداً
لمشاغبات أخرى ، أقف قليلاً لأدع عبق الرياحين الممزوجة بعطر الورد الجوري
والبرتقال والزفير تتغلل بكل حواسي ، ثم أبدأ بتسلق أشجار تغريني بثمارها
لأقطف ما لذّ وطاب ، وأركن لزاوية بعيدة كي أتلذذ بما جنته يدايّ ، وككل مرة
يتطاير البرتقال في الهواء مع قفزاتي البهلوانية وقد حاصرتني مجموعة من
الطائرات التي تكاد لا ترى لتنال من أناملي ووجهي ولا تبتعد إلا ودمعي ينهمر
كغيث ، و يتعالى أنيني صرخات تصل إلى سكان المنزل فيهرعون تسبقهم
ضحكاتهم وهم يعلمون بأنني عوقبت بشدة ، وأول من يمسح دمعي بحنان
صاحبة المنزل وتأخذني إلى الداخل لتعالج التورم الجلدي بفرك متواصل،
وعندما أهدأ أعاود الشغب الجماعي بمعية أطفالها خارج أسوار الحديقة .
ذاك المنزل شهد طفولتي ومراهقتي بكل ما فيها ، وكون منزلنا لا يبعد سوى
عدة أمتار تعمقت علاقة أسرتينا فلم نشعر إلا وكأننا أسرة واحدة .
وجاء الزمن ليبدد الشمل ، فابتعدنا وأصبح لكل فرد منا حياته الخاصة وفي خضم
المشاغل انسدلت ستائر الذاكرة لفترة ، ثم بدأت بدفع تلك الصور والذكريات إلى
السطح وإحيائها من جديد .
هرعت مع تلك الصور إلى ذاك المكان ، تجمدت قدمايّ وأنا أجول بناظري معالمه
من الخارج إلى الداخل ، كأنني أقف على أطلال ذكريات ، شعرت بغصة كبيرة
تقطع أنفاسي كل شيء يعمه الإهمال وغابت ملامحه ، غرفة الطيور
استوطنتها خيوط سوداء منسوجة بإتقان على الجدران نمت حشائش
خضراء رطبة ، الحديقة خاوية على عروشها لا ثمار ولا عبق يذكر ، الساحة
الداخلية أصبحت مرتعاً للقطط الجائعة ، أفكار وأسئلة تزاحمت بداخلي بقوة
وبت أتساءل :ما الذي جرى ؟؟
وبدأت أصرخ ، ام إبراهيم ، عفاف ، منى ومع كل إسم كان قلبي ينتفض ثم
فتح الباب سيدة لا أعرفها بادرتني قائلة : من أنتِ يا ابنتي؟؟ من تريدين ؟؟
تلعثمت وبدأت الكلمات والحروف تهرب مني وتساءلت من أنا؟؟ أأستحق قول
ابنة هذا البيت أم أبتعد وأحتفظ بما أملكه من ذكريات .
وفجأة رأيت وجوه الأحبة كما هي محفورة في قلبي هرعت إليها بلهفة وعلى
شفاهي كلمات بائسة " سامحوني ..سامحوني ..وابتعدوا بعيداً حاملين معهم
قصص طفولتي وغاب بعدهم المكان .
مواقع النشر (المفضلة)