مقال رآئع للدكتور سلمان العوده احببت ان اطرحه بين ابديكم وان شاء الله ينال ذآئقتكم
مثقف في مطار عربي
-لو سمحت ضع الصندوقَ على السّير .
هكذا حيّاه الرجل الذي يبدو عليه أثر الإعياء والتعب ، والذي قام بفتح الصندوق لمعرفة محتوياته .
-ما هذه ؟
-كتب
-أي كتب ؟
-هي أمامك تستطيع أن تقرأ عناوينها ، كتب علمية وشرعية وسياسية .
-أرى معها مصحفاً ؟
-نعم وهل هو محظور ؟
-الأوامر مشددة بعدم إدخال طبعات أخرى للمصحف غير الطبعة المحلية ؛ لاحتمال أن يكون فيها تحريف !
-هذه نسخة واحدة شخصية وصلتني هدية ، وهي مدققة وموثقة ، وحتى لو كان معي نسخة من الإنجيل للاستخدام الشخصي في البحث أو النقد أو التحليل؛ لا أظن أن القوانين تمنع إدخاله ، وكل كتب العالم موجودة على عالم جديد يسميه الناس اليوم بـ " الإنترنت " وفيه كل الكتب والمجلات والوثائق والصوت والصورة ولا حسيب ولا رقيب ! ، وهو في كل غرفة ، وبالألوان إن شئت !
-طيب أنت ليش زعلان ، هذه مهمتنا ، نحن نقوم بواجبنا !
-صمت !
-أرى هاهنا دروعاً تذكارية ؟
-نعم ، وهل هي محرمة أيضاً ؟
-تعرف ممكن يكون فيها إطار ذهبي أو ما شابه ، فلابد من مرورها على الجمارك !
سنحيل الكتب إلى الإعلام ، والدروع إلى الجمرك ، ويمكنك الحصول على ورقة استلام .
-متى تخلص ؟
-لا أدري ، العمل كثير ، والموظف مضغوط ، يمكن يراجعنا أحد بعد أسبوع أو شهر ، وإن شاء الله ما نتأخر !
-هل يشفع لهذه الكتب أنها مطبوعة هنا وفي البلد نفسه ؟
-عفواً ، تحتاج إلى تدقيق .
كلمة من هنا ، وكلمة من هناك ، والحديث يجرّ بعضه بعضاً ، والأحداث ترتفع ، والنفوس تحتشد ، والموظف يقرر أن " يؤدب " المسافرين الذين يبدو منهم بعض التذمر أو الاعتراض بالإبطاء والمزيد من الاستفزاز ، والمزيد من الإجراءات ، وحيث لا نظام ، فالموظف هو الذي يضع النظام وهو الذي يفسّره ، وهو الذي يطبّقه .
عليك ألا تقلق ، فهذا الذي تقرؤه ليس سوى " كابوس " وهمي لا يمتّ إلى الواقع بصلة ، ولم يحدث في مطار " ما " ، معركة لفظية في الذهن ، وأصوات تتعالى في الخيال يفيق منها صاحبنا على صوت الإمام وهو يلتفت إلى المصلين : " السلام عليكم ورحمة الله " .
أما الكتب والدروع فستعود ، لكن يخلف الله عليك صلاتك التي ذهبت في سرحان ذهني متكرر؛ تشتد معه الأعصاب ، ويمعن المصلي في الاستغراق في جدل عميق عقيم مع أيٍّ كان ..
مرّة مع شرطي المرور ، وأخرى مع موظف المطار ، وثالثة مع بائع التموينات ، ورابعة مع أحد أفراد الأسرة !
أفضل طريقة للتخلص من هذه " الكوابيس " الوهمية التي لا تمت إلى الواقع بصلة ، و.. ، و.. ، هو أن تتلافى حدوثها في ميدان الحياة العملية ، وأن تتكيّف مع الظروف المتفاوتة في المجتمعات التي كُتب لك أن تعايشها ، وتتعوّد فضيلة " الصبر " وضبط النفس ، وحفظ اللسان ، والتجاوز عن العثرة والزلة ، والترفّع عن المنازلة في شيء لا يستحق ، وبقدر احترامك لنفسك تقرر ألا تضعها في مواضع الحرج ، التي يراك الناس فيها ولا يدرون إن كنت مخطئاً أو مصيباً ، لكن يلحظون انفلات الأعصاب ، وزمجرة الغضب ، والترادّ والتلاسن اللفظي ، وربما احتشد أهل الفضول ورأوا وجهك الذي كساه الانفعال ، وأدركوا عدم قدرتك على التحكم في ذاتك ، وهيهات أن تحمي نفسك من الغلط في حق الآخرين , وقد ألجمك الغضب ، واستولى عليك الشر ، وفقدت الحلم ، ولم تعد تفكر في العواقب .
أظن -والله أعلم- أن الكثير من الناس يحدث معهم موقف ما ولا ينتهي بانتهاء اللحظة ، بل يرسم لصاحبه مساراً يقضي فيه عمراً طويلاً ، أو عمره كله ، مستغرقاً في نتائج جلسة عاصفة ، أو موقف عابر ، بدأت بالانتصار للنفس ، وإثبات صوابيتها ، وتخطئة الآخرين ، وتحقيق مغالطاتهم وعجلتهم وطيشهم ، حسبما نعتقد .. ، ثم تحوّلت إلى مسار دائم ، بترك العمل في هذه المؤسسة ، أو الهجرة من البلد ، أو مقاطعة هذه المجموعة ، أو فسخ عقد الشراكة ، أو الطلاق ، أو الهجر الطويل ..
ولك أن تتوقع تبعات شيء كهذا على النفس التي سيصاحبها الألم ، وحالات الحزن والكآبة والقلق ، ونوبات تأنيب الضمير المتكررة ، وفقدان بوصلة الترتيب للحياة .
أو تتخيل أثر ذلك على الآخرين ، بالقطيعة ، أو الفجيعة ، أو الحرمان ، أو الصدمة ، أو تفريق الأحبة ..
أو مدى الشرخ الذي يصنعه للمجتمع حين يتحول حراكه إلى معارك ومشاحنات ، وحروب طاحنة ، ومشادات كلامية ، ومخاصمات إعلامية لا تستثني شيئاً ، وتحشد حولها أعداداً جديدة من المتفرجين والبطالين والفارغين والمصفقين ، وتخرج إلى ميادين أدبية وثقافية وشرعية واستدلالات ، وقصتها بدأت من النفس ، فما أحكم ذلك الذي قال : كسب الأشخاص أهم من كسب المواقف .
وما أعظم التوصية الربانية : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)
أي: ادفع بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك عمن أساء إليك، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم، ويلقاك من قِبلهم.
قال الحسن : والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظا، ويصفح عما يكره .
لكم احترآمي
مواقع النشر (المفضلة)