[frame="6 80"] جلساء السوء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً أمَّا بعد :
فإنَّ الإنسان في هذه الحياة لابد له من مخالطةِ الناس واتخاذ بعضهم جليساً له وعويناً على مشاكل الحياة.
ولكن الناس متفاوتون في أخلاقهم وطباعهم، فمنهم الخيرُ الفاضل، والذي ينتفع بصحبته وصداقته، ومجاورته ومشاورته، ومنهم الرديءُ الناقص العقل، الذي يتضررُ بقربه وعشرته وصداقته، وجميع الاتصالات به ضررٌ وشرر ونكد، ولذا يقول- صلى الله عليه وسلم- في وصف بني آدم واختلافهم: ((إنَّ الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك)) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
إذا علم هذا أيُّها الإخوة، فاعلموا أنَّ كثيراً من الناس إنَّما حصل له الضلال وجميع المفاسد، بسبب جليسهِ وقرينه، ولذا يقول- صلى الله عليه وسلم-: (( المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) حديثٌ حسنٌ رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
فما من شيءٍ أدلُ على شيءٍ من الصاحبِ على صاحبه، وقديماً قيل:-
عن المرء لا تسال وسل عن قرينه فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
ولذا فإنَّهُ ينبغي لنا أيُّها الإخوة أن نكونَ حريصين على مؤاخاة من يتصفُ بالصفات الحميدة، من عقلٍ وافر يهدي صاحبه إلى الحق بإذن الله، ومن دينٍ يحملُ صاحبه على اتباع الخيرات وترك المضرات، وأن يكون محمودَ الأخلاق مرضي الأفعال.
وقد ضرب النبي- صلى الله عليه وسلم- مثلين للجليس الصالح وجليس السوء: فعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (( مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمَّا أن يحذيك، وإمَّا أن تبتاع منه، ,إمَّا أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) ، متفق عليه.
فهذا الحديث يفيدُ أن الجليس الصالح جميع أحوال صديقه معه خير وبركة، ونفعٌ ومغنم، مثل حامل المسك الذي ننتفع بما معه، إما بهبة أو بيع أو أقل شيء عادة الجلوس معه وأنت قرير النفس، فتشرح الصدر برائحةِ المسك. وهذا تقريبٌ وتشبيهٌ له بذلك، وإلاَّ فما يحصلُ من الخير الذي يصيبهُ العبد من جليسهِ الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنَّهُ إما أن يعلمك أموراً تنفعك في دينك، وإمَّا أن يعلمك أموراً تنفعك في دنياك، أو فيهما جميعاًَ، أو يهدي لك نصيحة تنفعك مدة حياتك، وبعد وفاتك، أو ينهاك عمَّا فيه مضرة لك. فأنت معه دائماً في منفعة، وربحك مضمونٌ بإذن الله، فتجده دائماً يرى أنك مقصرٌ في طاعة الله، فتزدادُ همتك في الطاعة، وتجتهدُ في الزيادةِ منها، وتراهُ يُبصرك بعيوبك، ويدعوك إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله.
فالإنسانُ مجبولٌ على الاقتداءِ بصاحبهِ وجليسه، والطباع والأرواح جنودٌ مجندة كما قال- صلى الله عليه وسلم-: في الحديث الذي رواه البخاري (( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.فإن بعضها يقود إلى الخير وبعضها يقود إلى الشر)) .وأقل نفعٍ يحصل من الجليس لصالح، انكفاف الإنسان بسببه عن السيئات والمساوئ والمعاصي، ورعاية للصحبةِ، ومنافسةٍ في الخير، وترفعاً عن الشر، ومن ما يستفادُ من الجليسِ الصالحِ، أنَّه يحمي عرضكَ في مغيبك وفي حضرتك، يدافعُ ويذب عنك، ومن ذلك أنَّك تنتفعُ بدعائه لك حياً وميتاً.
وأما مصاحبة الأشرار فهي السم الناقع، والبلاء الواقع، فتجدهم يشحبون على فعل المعاصي والمنكرات، ويرغبون فيها، ويفتحون لمن خالطهم وجالسهم أبواب الشر، ويُزينُون لمجالسيهم أنواع المعاصي، ويحثونهم على أذيةِ الخلق، ويذكرونهم بأمورِ الفساد، التي لم تدر في خلدهم، وإن هَمَّ أحدهم بتوبةٍ وانزجارٍ عن المعاصي، حسنوا عنده تأجيل ذلك، وطول الأمل، وأنَّ ما أنت فيه أهون من غيره، وفي إمكانك التوبةَ والإنابة إذا كبرت في السن، وما يحصلُ من مخالطتهم ومعاشرتهم أعظمُ من هذا بكثير.
وإذا أردت معرفةَ الأمرِ الواقع فانظر إلى فرعون معهُ هامان وزيره، وانظر إلى الحجاج معه يزيد بن مسلم، شرٌ منه، وانظر إلى يزيد بن معاوية معه مسلم بن عقبة المري، شرٌّ منه.
ولكن انظر إلى سليمان ابن عبد الملك صحبهُ رجاءُ بن حيوة الكندي، أحد الأعلام الأفاضل، فقوَّمهُ وسدده، وفي الحديث عنه- صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قال: (( ما بعث الله من نبيٍّ، ولا استخلف من خليفةٍ إلاَّ كانت له بطانتان، بطانةٌ تأمره بالمعروف وتحضهُ عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله)) رواه البخاري .
ويقول أيضاً في حديثٍ آخر: (( إذا أراد الله بالأمير خيراً، جعل له وزير صدق، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل لهُ وزير سُوء، إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه)) حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي.
فانظروا أيُّها الإخوة إلى مدى تأثير الجليس بجليسه، واختاروا لأنفسكم ولمن وُليتم أمرهم أهل التقى والصلاح، وتجنبوا أهلَ الشرِ والفساد، فإنَّه- صلى الله عليه وسلم- قد أمرَ بذلك فقال: (( لا تصاحب إلاَّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاَّ تقي)) رواه الترمذي وأحمد بإسناد حسن، وعن وديعةَ الأنصاري قال سمعتُ عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقولُ وهو يعظُ رجلاً: ( لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك، إلاَّ الأمين ولا أمين، إلاَّ من يخشى الله عز وجل ويطيعه، ولا تمشي مع الفاجر فيعلمك من فجوره، ولا تطلعهُ على سرك، ولا تشاور في أمرك إلاَّ الذين يخشون الله سبحانه) .
ووعظ بعضهم ابنهُ فقال له : إياكَ وإخوان السُوء، فإنَّهم يخونون من رافقهم، ويُفسِدون من صادقهم، وقربَهم أعدى من الجرب، ورفضهم والبعدُ عنهم من استكمال الأدب والدين، والمرءُ يُعرفُ بقرينه، والإخوانُ اثنان، فمحافظٌ عليك عند البلاء، وصديقُ العافية، فإنَّهم أعدى الأعداء وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
فما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
هكذا كان حرصهم بعضهم يوصي بعضاً، ويُوصون أبناءَهم مع تربيتهم لهم، لعلمهم بمدى تأثيرِ الجليس بجليسه، ولكن تغيرتِ الأحوال، فلا نملكُ إلاَّ أن نقولَ اللهُ المستعان، قلَّ اهتمامُ الناسِ بمكارمِ الأخلاق، واتبعوا طريق الأعداء، فليت شعري ما هي خاتمةُ هذا الأمر. نسألُ اللهَ أن يجعلها خاتمةً حسنةً نرى رايةَ الإسلامِ عاليةً خفاقةً عزيزةً مهيبة.[/frame]
مواقع النشر (المفضلة)