بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فمن فضل الله ومنته أن شرع لعباده مواسم عظيمة وساعات جليلة يتقربون فيها إليه عز وجل
هاهم يتشوقون لمقدم شهر الخير والبركة وتطول عليهم الليالي والأيام رغبة في إدراك هذا الشهر العظيم ولذا كانوا يدعون الله عز وجل أن يبلغهم شهر رمضان.
وإذا دخل الشهر الكريم وبانت أنواره تدرجوا في العبادة وتعودوا على الأنس بالقيام والصبر على الصيام حتى تنقضي العشر الأول ثم هاهم يرون هلاله قد ارتفع في السماء إيذانا ببداية الانصرام فهم يتشوقون إلى عظيم النوال حتى إذا أظلتهم العشر المباركة فإذا النفوس قد تطلعت إلى مزيد من العبادة رجاء المغفرة والعتق من النار.
قال ابن رجب – رحمه الله - : "
المحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عدا لانتظار ليالي العشر في كل عام ! فظفروا بها نالوا مطلوبهم وخدموا محبوبهم ".
وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم خير نبراس وهدى
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر )", وفي رواية مسلم : عن عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ".
قال ابن حجر – رحمه الله - : " وفي الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأخير إشارة إلى الحث على تجويد الخاتمة ".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم».
الأعمال الخاصة بالعشر الأواخر من رمضان :
الساعات الغالية النفيسة التي لا تعود إلا مرة في العام
يسارع إليها الموفقون يغتنمون لحظاتها ودقائقها ويتعرضون فيها لنفحات الجواد الكريم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر بأعمال لا يعملها بقية الشهر :
فمنها : إحياء الليل فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله ففي حديث عائشة قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر – يعني الأخير – شمر وشد المئزر ", ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : " ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح ".
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي وقد صح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعليا ليلا فيقول لهما : «ألا تقومان فتصليان ».
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة ونضح الماء في وجهه وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم : " الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ} [طه:132]".
قال سفيان الثوري – رحمه الله - : "
أحب إلى إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن طاقوا ذلك ".
ومنها : اغتساله صلى الله عليه وسلم بين العشاءين لحديث عائشة : " واغتسل بين الأذانين ", والمراد : أذان المغرب والعشاء قال ابن جرير : " كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر ويقول : ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة والتي تليها ليلتنا يعني البصريين ".
أخي المسلم :
لقد كان الصالحون إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان تهيأوا لها واستقبلوها بالطهارة ظاهرا و باطنا !
فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والغسل والتطيب بالطيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد وكما يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى وتطهيره من أدناس الذنوب.
ومنها : الاعتكاف
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى» وفي صحيح بخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين» وإنما كان يعتكف النبي صلى اله عليه وسلم في العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعا لأشغاله وتفريغا لباله وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه.
فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه فما بقى له سوى هم سوى الله وما يرضيه عنه وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال
قال الإمام الزهري – رحمه الله - : " عجبا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل ".
ليلة القدر
من أعظم ليال العام
فيها يفيض الرب عز وجل على عباده وتنزل عليهم الرحمات في ليلة خير من ألف شهر.
قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)} [القدر:1-3], وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شهر رمضان : «فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» وقال مالك: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمرفأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.
قال قتادة - رحمه الله - :
" إنما هي بركة كلها خير إلى مطلع الفجر ".
وقال الضحاك - رحمه الله - : "
لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة ".
قال الحسن البصري - رحمه الله - : "
إذا كان ليلة القدر لم تزل الملائكة تخفق بأجنحتها بالسلام من الله والرحمة من لدن صلاة المغرب إلى طلوع الفجر ".
أخي المسلم :
إنها ليلة نزول الملائكة ,, ليلة الخيرات ,, ليلة النفحات ,, ليلة العتق من النار,, ليلة الرحمة.
ومن فاتته هذه الليلة فهو محروم حقا, قال صلى الله عليه وسلم : «من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم».
وليلة القدر أنزل فيها القرآن ووصفها الله عز وجل بأنها ليلة مباركة يكتب فيها الآجال والأرزاق خلال العام :
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] ولها فضل عن غيرها من الليالي فهي خير من ألف شهر في العبادة وتنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركه وهي ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير : {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] وفيها غفران الذنوب لمن قامها إيمانا واحتسابا ,,,
وأما العمل في ليلة القدر فقد أثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
«من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضا.
قال سفيان الثوري :
" الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة ". ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وأن قرأ ودعا كان حسنا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها الرحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
وقد سئلت عائشة – رضي الله عنها – النبي صلى الله عليه وسلم :
أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : «قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فأعفو عني» ولعظمة هذه الليلة كان الصالحون يتهيأون لها ويستقبلونها كما الأعياد فقد كان لتميم الداري رضي الله عنه حلة اشتراها بألف درهم كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر وكان ثابت البناني وحميد الطويل – رحمهما الله – يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبون المسجد بأنواع الطيب في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.
أخي المسلم :
عليك بالمبادرة إلى الخيرات والإسراع في عمل الصالحات ولا تفوت هذه الأيام والليال الغالية فإن الوقت كالسيف وتأمل في حال من صلى وصام العام الماضي واليوم رهين القبر فأسرع إلى طاعة ربك وتذلل بين يديه واسأله العافية في الدنيا والآخرة.
قال ابن الجوزي : "
كم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب وهذه الأيام مثل المزرعة فكأنه قيل للإنسان : كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر ( مكيال ضخم ) فهل يجوز للعاقل أن يتوقف البذر ويتواني ؟! ".
أخي المسلم :
نداء من الرب عز وجل يحتاج إلى حسن استجابة ومداومة على الخير {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
قال سعيد بن جبير – رحمه الله - :" سارعوا بالأعمال الصالحة {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} قال : لذنوبكم ".
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء هم الذين {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60]. روي عن علي رضي الله عنه قال : " كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]".
عن الحسن قال : "
إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا و تخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون ".
جعلنا الله وإيّاكم من المقبولين في هذا الشهر الكريم وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
دار القاسم
مواقع النشر (المفضلة)