بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,,
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟ » قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أبدلكم بهما خيـراً منهـما: يـوم الأضـحى، ويوم الفطر»(1)، وعـن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنـدي جـاريتــان تغنّيـان بغنـاء بُـعـاث، فاضـطجـع علـى الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -! فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «دعهـما» فلـما غـفل غمـزتهـما فخـرجـتا(2)، وفـي روايـة: «يا أبا بكر! إن لكل قوم عيداً؛ وهذا عيدنا»(3).
وأذن النـبـي - صلى الله عليه وسلم - للسُّــودان أن يلعبـوا بالـدَّرق والحِـراب في مسجده، وقال لعائشة: «تشتهين تنظرين؟ » قالت: نعم! فأقامني وراءه، خدّي على خدّه وهو يقول: «دونكم يا بني أرفدة! »(4)، وفي رواية: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة»(5).
ما هي النظرة الصحيحة للعيد؟ وماذا يجب أن يكون عليه المسلم في العيد؟
هذا ما أرجو أن تكون الإجابة عليه في هذه الكلمات اليسيرة. وحتى نلمّ شعث الحديث ونجمع شتاته نعرض له في عدة قضايا:
القضية الأولى:
العيد تأكيد لتميز المسلم عن المشرك والكافر، واستغنائه بالشرع المبارك عن عادات الشعوب البائدة وتقاليد الأمم الماضية: «قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر»، «هذا عيدنا» نعم! هذا عيدنا، خير مما هم فيه من اللهو واللعب مع الغفلة والإعراض، أما عيدنا فهو مزيد اتصالٍ بالله؛ فهو نفحة قدسية ورحمة إلهية. نفتتحه بالتكبير والذِّكر والصلاة والشكر لله على تمام عدة الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. [البقرة: 185].
القضية الثانية:
خـرج النـبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة متخفّياً، حتى إذا وافاه العيد في المدينة لم يشأ أن يقتل البسمة أو يرضَّ الشفاه أو يطبق الأفواه، بل أعلن فرحة العيد، وأظهر سروره به مع أنه يلاقي ما يلاقي من كيد الأعداء ومكرهم؛ لكنها العزائم القوية والنفوس الكبيرة؛ حيث تجد متسعاً للفرح برحمة الله وفيضه وإن عظمت فيها الجراح وتتابعت عليها الضربات.
أليس يهزّك الفرح حين تسمع بانتصار المسلمين في مكان مـع أن جـراحاتهم في أمـاكن أخـرى لا زالت ملتهبة، ودماءهم لا زالت نازفة؟ بل إن المسلمين يفرحون في الغَزاة الواحدة بالنصر الذي يحرزونه، مع أنهم قدّموا في الغَزاة نفسها دماءً وأشلاء..نقول ذلك لأناس يريدون منا أن نرضَّ شفاهنا ونقتل في نفوسنا كل فرحة، ونطفئ كل بسمة، يريدون أن تتحول أفراحنا إلى مناحات - وإن كان ذلك منهم عن حسن نية - لكن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم وأكمل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، لسنا نريد من وراء هذا الكلام أن تُنسى الجراح التي يعيشها إخواننا في أصقاع المعمورة، لكن نريد أن نفرح بفضل الله ورحمته: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].
إن التزام المسلم للحزن والكآبة كلَّ حين من شأنه أن يُقعد النفـوس عن العمل، وأن يوقـف الـدم عن الحـركة، والـذهـن عن الفـكر، فلا نستـطيع بذلك أن نحرز نصراً، أو نشبع جـوعة، أو نغيـث لهفة، وإنما نزيد الطين بلّة، ونضع ضغثاً على إبَّالة(1).قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «أريحوا القلوب؛ فـإن القلب إذا أُكره عمي»(2) ويقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: «إني لأستجمُّ نفسي بالشيء من الباطل - غير المحرم - فيكون أقوى لها على الحق»(3).
القضية الثالثة:
في مشروعية الفرح بالعيد في هذين اليومين بعثٌ للأمل في الأمة، وإحياء للتفاؤل فيها، فَفَرْحة العيد تلقي في روعنا أن أيام الحزن مهما امتدت سيأتي بعدها يوم فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون، سيأتي يوم تشرق الدنيا بعزِّ الإسلام وعلوّ أهله؛ فالعسر يتبعه اليسر، والشدة يتلوها الفرج، وبعد الحزن يأتي الفرح.
يأتي العيد فنفرح وتشرق نفوسنا بالأمل، ونتعلم من هذا الفرح أن أمتنا لا زالت قوية متينة؛ فهي تستطيع أن تفرح مع أنها مثخنة بالجراح، وسيأتي يوم تُشفى من جراحها وتضاعف فرحتها بالعيد.
إن تكبيرنا في العيد يملأ نفوسنا اعتزازاً، ونؤمن أنه ليس من أحد أكبر من الله ولا أقوى منه (وهو الكبير المتعال). ونحن المكبرون جند الله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده؛ والعاقبة للمتقين.
إنه الأمل المشرق كلما أشرق العيد.. فأبشروا وأمّلوا فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا، وأُفقه أوسع من أوطاننا، وما كان لعدو أن يحيط بالإسلام فيطفئ نوره:
{وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
القضية الرابعة:
العيد فاصل ضروري في حياة المسلم، يُـرَوِّح بـه عـن نفسـه مـن ثـقـل العمل المتتـابع الجـاد، ليعود إلى الجـادة مـرة أخرى أجـود مـا يكـون وأكمـل رغبة ونشـاطـاً. إلا أن هـذا الترويح الـذي يزاولـه المسـلم في العـيد لا يصح أن يخرج به عن حدود الشرع، وأن يوقعه في الأَشَر والبطر فيضل ويخزى.
- لا يصلح أن تلهينا فرحة العيد فنغفل في زحمتها عن ذكر الله وعن الصلاة.
- ولا يصح أن يكون فرحنا بالعيد على حساب أذية الآخرين وإلحـاق الضرر بهم، لا في أبدانهم ولا أولادهم ولا ممتلكاتهم ولا سيـاراتهم، وفي الحـديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً» (4).
- لا يصـح أن تتـحول فرحـة العـيد إلى غناء ماجن وسهرات راقـصـة، أو جلسـات غنـائية لاغية يُستجلب بها غضب الله بعد أن كان الناس يتقلبون في روضات رضاه، فنكون كما
قال الله ـ - تعالى -ـ: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]
- لا يصح أن يكون العيد فرصة اختلاط بين الرجال والنساء، أو تكشّف وسفور وغزل ممقوت؛ والله ـ - تعالى -ـ يقول: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. ويقول ـ أيضاً ـ: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31].
قـال بعـض أصحاب سفيان الثـوري: خـرجـت مـع سفـيـان ـ - رحمه الله - ـ يوم العيد فقال: «إن أول ما نبدأ به يومنا هذا غض البصر»(5).
- لا يصـح أن نبـذّر في العيد تبذيراً، في موائـد ينقـطع منهـا البـصر، أو مسابقات تذهـب الممتـلكات وتـوقـع النـفس في الحسرات. إنه حين يتحول العيد إلى مثل هذه التصرفات المنحرفة والأحوال الغافلة فإنها تصبح بذلك مجالس لهو ولعب وغفلة لا يجوز للمسلم أن يسهم فيها أو يمتّع ناظريه بحضورها؛ لأن الله حكم وقضى فقال: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [الأنعام: 68]. ولأن جلـوسـك مـع الغــافلـين ولـو للفـرجة فيه إعـانة علـى البـاطـل. عـن ابـن مسعود - رضي الله عنه - أنه دُعي إلى وليمة فلما جاء ليدخل سمع لهواً فرجـع، فقيل له في ذلك، فقال: «من كثَّر سوادَ قوم فهو منهم، ومن رضي عملَ قوم كان شريكاً لمن عمله»(6).
هذا عيدنا ـ أهلَ الإسلام ـ ذكرٌ ودعاءٌ، وأُنْسٌ وصفاء، وروح وهناء، وحب ووفاء، وعلو وأمل.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) أبو داود (1134).
(2) البخاري (949).
(3) مسلم (892).
(4) البخاري (950)، ومسلم (892).
(5) أحمد: 6/116
مواقع النشر (المفضلة)