حوار مع الكاتب السوداني طارق الطيب
المواطن العربي يقرأ بمتوسط 6 دقـائق كل عام
نحن نعرف متى استيقظ لاعب كرة القدم الشهير ومتى حلـق ذقنه
ولا نعرف اسم الأديب أو العالِم
كانت قراءة ممتعة تلك التي قضيتها مع مجموعته السردية ، الشعرية " تخليصات " ثلاثة كتب في كتاب هي : حس ادراك "الخافت " وحس ارباك " الخاطف " وحس استدراك " الخافي ".
عاش بين عالمين عالم أوروبا والغرب (فيينا ) الذي يعيش فيه الان وعالم قديم _كما قال ذات مرة_ أفريقيا والشرق (حضارة وادي النيل ) مصر و السودان .
حوار : خلود الفلاح
هذه الحالة الكوزموبولتية لاشك انها وراء تنوع انتاجه بين الرواية "مدن بلا نخيل و بيت النخيل " والشعر "حقيبة مملوءة بحمام وهديل " ومسرحي " الاسانسير " والقصة القصيرة "الجمل لايقف خلف اشارة حمراء و أذكروا محاسن... " والفن التشكيلي .
العمل الابداعي لديه خليط مركب من الخيال و الواقع لذلك كانت شخصية حمزة في روايتيه هي تاريخ منه ومن الحياة في الشرق و الغرب .
العمل الابداعي كما يقول لايجوز حصره في تسمية شعري أو روائي أو قصصي بل يجب منح القارئ مفتاح اعادة الاكتشاف واعادة تسميته .
الشهر الفائت تحصل على الجائزة العالمية الكبرى للشعر للعام 2007 في رومانيا من قبل الأكاديمية العالمية ( شرق _ غرب ) .
< لماذا تكتب؟
_ هذا السؤال يتكرَّر عليَّ مرارًا كل بضع سنوات، وأرسب دائمًا في هذا الامتحان.
السؤال الذي يبدأ بـ "كيف تكتب؟ هل تكتب؟ متى تكتب؟ أين تكتب؟" هو سؤال أسهل ردا، أما السؤال الذي يبدأ باللامات: "لماذا تكتب؟ أو لِمَ تكتب أو لمن تكتب؟" رغم بساطته فهو يثير الارتباك لكثير من الكتاب وأنا أولهم.
أما لِمَ أصر على الكتابة، رغم أنها لا تدرّ غالبا لا مالاً ولا مآلاً؛ فأظنه الإحساس بأنني أفعل شيئًا ضروريا دون إجبار أو تكليف، وأنني من خلال هذا الفعل أسير في درب من البحث خُلقنا لها.
أكتب لأترك سطورًا من تجربتي الحياتية برؤية فنية لمن بعدي. ربما هي محاولة خفية لمد الحياة!
فأنا ما زلت أسبح في هذا البحر العريض من الكتابة، ما إن أصل لشاطئ حتى أبحث عن غيره. اعتقادي بأن البحر هو الأصل والشاطئ استثناء. هذا الشك وهذا القلق ربما يشكلان الدافع وها أنا أكاد أصل لأطراف الإجابة دون أن أجيب.
< تترجم الرواية العربية إلى العديد من اللغات ويصبح أصحابها معروفين خارج أوطانهم بل ويكرم بعضهم كروائي عالمي، في حين أن هذه الرواية تكون غير معروفة على المستوى المحلي والعربي وقد يكون أصحابها مغمورين حتى بعد ترجمة رواياتهم إلى عدد من اللغات. كيف تفسر ذلك؟
_ نحن شعب لا يقرأ ولا يحب القراءة ولا يشتري الكتاب؛ فما بالك بالترجمة، وسأطرح عليك مقاربة لبعض الإحصائيات: ما ترجمه العرب من العصر العباسي حتى عام 2003 لم يصل بعد إلى 11 ألف كتاب وهو مجموع ما تترجمه أسبانيا في عام واحد. وفي أوائل الثمانينيات كان متوسط الكتب المترجمة في البلدان العربية في 4.4 كتاب سنويا لكل مليون من السكان، بينما بلغ 519 كتاباً في المجر و920 كتاباً في أسبانيا لكل مليون من السكان. وإن كل ثامن كتاب في ألمانيا مترجم عن لغة أجنبية وهذا يعادل حوالي سبعة آلاف وستمائة عنوان سنويا.
الترجمة في هذه البلدان تعتبر شيئا أساسيا في النهضة الثقافية بينما نعتبرها نحن شيئا من الترف أو الكماليات.
وسأستكمل بعض الإحصائيات التي تنوب عن تحليل الرد: إن طبع 2000 نسخة من كتاب فِي الوطن العربي تستغرق حوالي خمس سنوات توزيعًا. ويقرأ الفرد العربي حوالي 6 دقائق في المتوسط سنويًّا، وكل 300 فرد يقرءون كتابا واحدًا كل عام، ولا تتجاوز نسبة القراءة في العالم العربي 1.1 في المائة من النسبة عالميا. والعالم العربي الآن فيه ما بين 75 إلى مائة مليون أمي. وقبل عشر سنوات- وفقا لإحصائيات اليونسكو- أنفق العرب 0.14% من الدخل القومي على البحث العلمي، بينما أنققت كوبا عشرة أضعاف وإسرائيل ثمانية عشر ضعفًا واليابان عشرين ضعفا.
الناس هنا في الغرب يقرءون في كل مكان: في القطار وفي الترام وفي الأوتوبيس وفي المحطات وفي الحدائق وفي الشوارع. في كل مدرسة هنا مكتبة كبيرة بها الكثير من الإصدارات قديمة وحديثة. في معظم البيوت توجد مكتبة، ومن أكثر الأشياء التي تُهدى في المناسبات هي الكتب. هنا في الغرب يحبّبون الصغار منذ نعومة أظفارهم في القراءة. أول الكتب التي تهدى للأطفال في سن عام هي كتب بصور دون نصوص، ثم تتطور بسطر ثم سطرين ثم حكاية وهكذا. مدربون هم منذ صغرهم على القراءة والاطلاع وعلى تكوين مكتبة شخصية وعلى تعود اقتناء الكتب وزيارة المكتبات. إنهم يصرفون على الكتاب ويشجعون القراءة ويشجعون الترجمة ويكرمون الأدباء ويشجعونهم. يقرءون في الأدب الحديث وللمعاصرين. يحاورون الكتاب ويدعونهم في حياتهم قبل أن يموتوا.
في عام 1999 دعتني جامعة بواتيه في فرنسا بمناسبة ترجمة روايتي "مدن بلا نخيل" إلى الفرنسية، زرتُ مدينة لاروشيل. كانوا في ذلك العام قد قرروا كتابي على طالبات وطلاب المرحلة الثانوية في المدينة. خصصوا لي ست قراءات، خمس منها في المدارس الثانوية، وواحدة في مسرح المدينة. حاورت ما يزيد عن ألف طالب وطالبة. أول قراءة لي في جامعتي في مصر حضرها الأساتذة والمعيدون فقط ومنعوا الطلاب من الحضور. قالوا إنهم في فترة امتحانات. كنت حزينا والطلاب أمامي في الجامعة بالمئات يقفون ويجلسون ويشربون ويثرثرون في حوش الجامعة ولا امتحان ولا يحزنون.
إن كتابي الذي ينشر في مصر قد يصل إلى السودان بعد سنوات أو لا يصل. ليس لدينا اهتمامٌ بالأدب عمومًا أو الرواية إلا في نطاق ضيق. نحن نعرف متى استيقظ لاعب كرة القدم الشهير ومتى حلق ذقنه وماذا لبس وماذا أكل ولا نعرف اسم الأديب أو العالِم.
الكتاب العربي يتحرَّك من دولة عربية لأخرى بمنتهى التوجس وأحيانا يُهرَّب كأنه مخدرات أو خطر على النظام القائم. الخوف والتعتيم والمصادرة في أغلب الحيان حالات ليست نادرة.
هذا في حال تنقل الكتاب. أما عن تنقل الفرد العربي الفقير أو غير النفطي من دولة لأخرى، فحدِّثي ولا حرج.
< ألا ترى أن السرد العربي يسير وفق ضوابط قديمة، ضوابط من خارج الحقل الأدبي، السياسي، الديني، الاجتماعي. ولا يحوز على الشهرة إلا القادرون على الخروج عن هذه الضوابط، وأحيانًا دون أخذ قيمة السرد بعين الاعتبار؟
_ ما زالت لدينا محرمات في الكتابة عربيا، تضع حدودًا للأخلاقي والديني والسياسي. ما زال المواطن في بلادنا يُعامَل معاملة القاصر؛ فليس من حقه أن يفكر بنفسه بل يُفكَّر له.
ولأن الناس عندنا محرومون من قراءة نصوص مفتوحة حُرَّة، ولم يتعودوا على ذلك؛ فهم في شغف لكل ما يخرج عن المألوف أو عن هذه الضوابط. وهذا توجه طبيعي في المجتمعات المقموعة، لكنه غير صحي، فتبادل الكتب سِرًّا ونسخها سِرًّا يعد أمرا شاذا عن طبيعة الفن. ونحن بهذا نظلم الفن لو اعتبرنا أن شهرته وشهرة أدبائه تأتي من الخروج على القيم.
الأدب الحقيقي موجود والرواية الجيدة موجودة وفي المتناول، لكن بعض الدول تمنع تداول الروايات لأن رواية واحدة في نظرها خرجت عن سياق الخط الأخلاقي العام، بل تبالغ وتغلو بعض الدول في التعامل مع هذا الفن على أنه من المحرمات، فتمنع وتصادر دون أدنى قراءة. أما الفرقعات الأدبية التافهة، فهي تحدث في كل مجتمع، ولا تخلق أدبا ذا قيمة ولا أدباء ذوي قيمة. في الغرب ليس هناك انتباه لهذه التوافه. المجتمعات الفزعة فقط هي التي تخشى الفن وتخشى الحرية وتكبل الأدب والأدباء لأنها لا تستطيع التمييز بين الغث والسمين.
< يعشق القراء الروايات بضمير المتكلم. ضمير الغائب يقلل من مصداقية السارد ويعقد الأسلوب الروائي. كيف تعلق على ذلك؟
_ أنا أفضّل غالبا استعمال ضمير المتكلم في الرواية. هذا الضمير يقرِّب القارئ من الرواية، ينفعل بها ويتفاعل معها أكثر. رغم ما يجر هذا على الكاتب دائما السؤال المتكرر: "ما هو الجزء الخاص بسيرتك الذاتية وتجربتك الفعلية في هذه الرواية؟ هل أنت فلان في الرواية؟" ومع ذلك فالرواية ابتكار من الكاتب، ينسجها من بعض الوقائع والمفاهيم المشتركة ويمزجها بكثير أو قليل من الخيال وبالطبع من فنيته في تناول الموضوع.
ضمير الغائب قد يحيل إلى تنصُّل ما من شخصية الرواية ويضع حدًّا أو محايدة متعسفة في أغلب الأحيان، وليس بالضرورة أن يكون ضمير الغائب سببا في تعقيد الرواية، فالتاريخ يذكّرنا كيف لجأ الكاتب في أزمنة التسلط والقمع قديما من توصيل آرائه ليس عبر ضمير الغائب بل عبر الحيوان كما في كتاب كليلة ودمنة، الذي ألفه في أوائل القرن السادس الميلاد بيدبا الفيلسوف الهندي لملكه دبشليم، وترجمه ابن المقفع إلى العربية. وهو أكبر مثل على توصيل الرسالة السياسية ضد الظلم بطريقة حكائية فنية فريدة. وما زال الكاتب في عصرنا في زمن القهر المتوارث لا يعدم الحيلة في تمرير آرائه عبر أكثر من ضمير وأكثر من وسيلة، وهذا ليس تعقيدًا. التعقيد ينشأ حين يخلط الراوي شخصيات الرواية معه، فلا يعرف القارئ أهذا رأيه وقوله هو أم رأي الشخصية الروائية، هنا قد يحدث اللبس. وأين سيكون الفن حين يوقع الكاتب رأي شخصياته بشكل مباشر؟
< "بيت النخيل" و"مدن بلا نخيل" بين هاتين الروايتين يقف القارئ على محاولة الكاتب المستمرة لقهر الاغتراب. ما رأيك؟ وهل هذه الأعمال جزء من السيرة؟ وهل لمفهوم التجربة السابقة واللاحقة "للكاتب والقارئ" علاقة بالموضوع؟
_ في "بيت النخيل" وفي "مدن بلا نخيل" محاولة لفهم الاغتراب أولا ولو على المستوى البسيط. حمزة في الرواية أدرك إنه هو الغريب وليس العالم الجديد من حوله، فمعظم من يخرجون من جغرافيتهم المحدودة، يستغربون بقية العالم أنه لا يشبه ما يعرفون أو يستنكرون العادات والتقاليد لأنها تخالف ما اعتادوا عليه. من لا يستدرك إذًا أن قهر الاغتراب يستلزم إدراك هذا الاغتراب وفهمه أولاً، وثانيا يستلزم صبره وتسامحه إزاء العالم- إلى حين- رغم أن قسوة وتعصب هذا العالم ولا رحمته، وثالثا أن يمنح نفسه مسافة للسخرية حتى لا تكون الوطأة أشد. ربما تبدو كوصفة سحرية لا تصلح للكثيرين، لكن حمزة حاول تنفيذها على هذا المستوى، نجح مرات وأخفق مرات، لكن مرات النجاح مع قلتها سمحت له باستمراره في الحياة والوجود وبإمكانية التأثير، وأن يكون له رغم كل هذا الهدوء- هذا الصوت الواضح المستنكر المتمرد في سخرية، وها هو ينتظرني لأكتب عنه مجددا رواية ثالثة.
أستكمل الجواب من ردي السابق وأقول إن هذه الأعمال فيها نتف من السيرة الذاتية ونتف من الخيال ونتف من حكايات وقصص وذكريات وتاريخ مركّب وتأليف مبتكر بخلق شخصيات فنية تبدو أكثر واقعية لتسند أركان الرواية.
الرواية مثل اللوحة تحتاج لخلفية وألوان وظلال وتركيبة متناسقة وقبل ذلك الفكرة الفريدة. وينبغي أن يكون ضرب الفرشاة على اللوحة سهلا انسيابيا بسهولة لتخرج اللوحة باهرة وقوية، وهكذا الكتابة!
< "إرهاب العين البيضاء" أو: نصوص، تميل إلى الشعر حينًا وإلى السرد حيناً آخر، وعلى شكل لوحة كتابية كما في "قطيع يتبعثر" و"السيد فوق الجميع" هذه "التخليصات" هل هي دعوة للتخلص من الحذر عند ملامسة النصوص الإبداعية وضرورة بحث القارئ عن مفاتيح قراءة خاصة به ومختلفة عن الكاتب؟
_ سميت كتاب "تخليصات" بـ (حِسّ) لأنأى به بعيدًا عن حروب التسميات وجدل الفقه الشعري، فيه من النثر نصيب ومن الشعر نصيب وفيه مزج كثير بينهما، وفيه قدر من التجريب في التصرف في بعض النصوص؛ فيه تشكيل بصري كما ذكرتِ، بل كان هناك أكثر من ذلك من التشكيلات البصرية في النصوص، ضاعت أثناء الطباعة وتعبت كثيرًا من التصحيحات والتعديلات والملاحظات حتى خرج الكتاب بعد عذاب، فقبلته على علاّته.
مهمتي هي إثارة تفكير القارئ بغير المألوف محاولاً بقدر الإمكان الحفاظ على القيمة الأدبية؛ لأننا تعوَّدنا على قراءة محفوظية (ليست من نجيب محفوظ) بل من الحفظ وإنصات حفظي أيضا. نتلقى أغلب النصوص باستقبال غيبوي شبه ثابت. حتى صحافتنا لم تتطور أبدا بجديد على مستوى الجملة والنص. نشرات الأخبار التي نسمعها نكاد ننطقها مع المذيع، حتى أصبحت هذه الجمل مثل صيغ كيميائية أو رياضية لا تقبل التغيير.
أنا أرجو من القارئ أن يتخلص مني ومن الفخ الذي نصبته له، ففخِّي ما هو إلا استدراج يفضي إلى باب ومنه إلى براح واسع، عليه أن يخرج إليه بنفسه ليرى.
< للكلمات تاريخ في كل لغة، إلى أي مدى يرتبط الكاتب بتاريخ الكلمات؟
_ اللغة كائن حي قابل للتطور، والمبدعون هم أهم من طوَّروا اللغة، باستعمالاتهم المجازية التي أصبحت فيما بعد حقيقية، وباستخداماتهم الجديدة أصبحت للغة أطوار.
كما أن التطور التقني الذي نعيشه جعل مدلول فعل "يطير" مثلا قبل أقل من قرنين غير مدلوله اليوم، وكلمة "بريد إلكتروني أو إيميل"، من كان يفهمها قبل بضعة عقود.
بالتأكيد هناك أيضا كلمات ضاعت أو اندثرت من ندرة الاستعمال ومن غباء عصور الانحطاط التي تخسف بالكلام في الأرض.
الكاتب مهمته إجلاء الكلمات والمعاني وإخراج الجديد وغير المألوف للإفادة وتغيير الذهنية الجامدة، فالجمود ضياع تدريجي بكل تأكيد
مواقع النشر (المفضلة)