[align=center]
بسم الله الرحمن الرحيم..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
رسالة إلى طالبة العلم الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ثمّ الصلاة على المصطفى وآله الأطهار وصحبه النجباء الأتقياء وسلّم تسليماً كثيراً, وبعد:
ابنتي طالبة العلم الشرعي:
أريد أن أهمس في أذنك بعض الكلمات لتكون دليلاً في حياتك في حاضركِ ومستقبلكِ الآتي إن شاء الله.
ابنتي :
نحن أمّةٌ رفع الله شأنها بهذا الدين الذي تسلمناه دون عناءٍ منّا ولا نصَب, أخذناه على أكف الراحة مع أنّ أسلافنا من عهده إلى أصحابه والتابعين بذلوا كلّ غالٍ ونفيس من أجل أن يصل هذا الدين كاملاً متكاملاً وحافظوا عليه وعضوا عليه بالنواجذ, فما بالنا اليوم نزهد بما تمسك به هؤلاء؟!! ما بالنا اليوم في ذلٍّ وقهرٍ وصِغرٍ راضين بهذا الحال ونعزّي أنفسنا بأنّ الله هو من كتب ذلك علينا ولا يسعنا إلا الرضا بما قدَّر, هل نكون بهذا الاستسلام قذ أدينا حقّ هذا الدين وحقّ رسولنا العظيم ؟!!
أين حرصكِ على العلم وبلوغ أسمى غاياته؟ أين حرصك على تقواكِ وعفافكِ أين أدبكِ أين حشمتكِ أين عقلك النيّر؟! أين سَمْتك أين هديك؟!
فو الله ما عرفت البشريّة ديناً مثل الإسلام عُني بالعلم أبلغ العناية وأتمّها :
فمن دعوةٍ إليه وترغيباً فيه وتعظيماً لقدره وتنويهاً بأهله وحثاً على طلبه وتعلمه وتعليمه وبياناً لآدابه وتوضيحاً لآثاره. فما بالي أراكِ اليوم تجترين حضارة السابقين ولا تستعين لتكوني على سننهم ونهجهم؟!!
نحن أمّة لن يتغير حالها حتى تتغير لن تنتصر حتّى تنصر دينها ونبّيها.
عليكِ ابنتي بالعلم فقد ورد ذكر كلمة "علم" في القرآن الكريم نكرةً ومعرفةً (80) مرةً, ووردت كلمة "الألباب" وتكررت (16) مرةً, وكلمة "النُهى" أيّ العقول مرتين, وتكاثرت الأحاديث عن النّبيّ بعد آيات القرآن في بيان فضل العلم ومنزلة العلماء عند الله وعند النّاس في الدنيا والآخرة,
فمثلاً يقول :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". رواه البخاري ومسلم .
ويقول أيضاً : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً إلى الجنّة , وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفّتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم وأصحاب السنن وابن حيّان في صحيحه.
فهذه الأحاديث تدّلّ على فضل العلم وبخاصةٍ العلم بالدين أو على حدّ تعبير الحديث: الفقه في الدين,
والواقع أنّ الفقه في الدين أخصّ وأعمق من مجرد العلم بالدين, فالعلم معرفة الظاهر فحسبْ والفقه معرفةٌ بالظاهر واللبّ معاً, فالعلم يتّصل بالعقل والفقه يتّصل بالعقل والقلب جميعاً.
وهذه الملائكة في الحديث الثاني تحفّ مجالس العلم تضع أجنحتها لطالبيه فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل والحفّ حفظ وحماية وصيانة,
فماذا لو كنت ياابنتي ممن كان حالهم هذا؟ ما أعظمه من حال وما أرقاه من مقام . وليست الآيات والأحاديث فحسب عُنيت بالعلم, والصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتحدثون عن العلم ومكانته,
يروى أنّ رجلاً سأل ابن عبّاس عن الجهاد فقال له :
"ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبني مسجداً تعلم فيه القرآن وسنن النّبيّ والفقه في الدين"
المرجع: (جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/73-74)
وقال الحسن :
لولا العلماء لصار النّاس مثل البهائم أي أنّهم بالعلم يخرجون النّاس من حدّ البهيمة إلى حدّ الإنسانية. وقال يحيى بن معاذ:
العلماء أرحم بأمّة محمّد من آبائهم وأمهاتهم, قيل: وكيف ذلك ؟ قال: لأنّ آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة.
وقال الإمام أحمد بن حنبل:
حاجة الإنسان إلى العلم أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب,
وبهذا يكون العلم دليلاً على الإيمان, فالإسلام يرفض في بناء العقيدة "التقليد والتبعية" كقول من قالوا : "حسبنا ما وجدنا عليه آباؤنا" (المائدة:104) ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق والتفكير الهادئ, ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة : "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" (البقرة : 111)
فالإسلام دين العقل والمنطق السليم القائم على الدليل والبرهان,
والعلم دليل العمل, ترجم الإمام البخاري في جامعه الصحيح: "باب العلم قبل القول والعمل",
وقال ابن المنير:
أراد به أنّ العلم لصحة القول والعمل, فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما, مصحح للنيّة المصحّحة للعمل, فذهب البخاريّ على ذلك حتّّى لا يسبق إلى الذهن –من قولهم أنّ العلم لا ينفع إلا بالعمل تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه-
فال تستقيم عبادةٌ يجهل صاحبها ما يجب لها من شروط وما تقوم عليه من أركان, لهذا قال النّبيّ للرجل الذي أساء في صلاته ولم يؤدِ حقّها من الطمأنينة "ارجع فصلِّ فإنّك لم تصلِّ" حديث المسيء صلاته المشهور (رواه الشيخان وغيرهما في كتاب الصلاة) . وإنّما قال له :"لم تصلِّ" مع أنّه أدّى الصلاة أمامه لكنّها صلاةٌ منقوصةٌ مبتورةٌ. والعلم أفضل من العبادة لأنّه هو أساسها وتقوم العبادة عليه.
فالعبادة يعود ثوابها على الشخص حصراً أما العلم فنفعه متعدٍّ لا يقتصر على صاحبه بل يتجاوزه إلى غيره من النّاس من كل من يسمعه أو يقرؤه, وقد يكون بينه وبينهم جبالاً ووهاداً أو بحار وقفار. فالعلم لا يعرف القيود ولا يعترف بالحواجز والسدود وخاصةً في عصرنا الذي نعيش فيه مع كلِّ وسائل التكنولوجيا الحديثة.
والاشتغال بالعلم أفضل ما يتطوع به المرء, فقد ذكر ابن مسعود فضل ذلك قائلاً:"الدراسة صلاةٌ"
وعن أبي الدرداء قال : "مذاكرة العلم ساعةٌ خيرٌ من قيام الليل"
وعن أبي هريرة : "لأن أجلس ساعة فأفقه في ديني أحبُّ إلأيَّ من أحييّ ليلةً إلى الصبح"
وقال الثوريّ وهو من التابعين : "ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم"
ولا أريد أن تفهمي ابنتي طالبة العلم الشرعيّ
أن أترك العبادات (الفرائض والنوافل) وأتفرغ للعلم, ليس هذا هو المعنى وإنّما المعنى أن نجمع بين الأمرين معاً فما أعظم أن تجمع الدين والدنيا في حياة الإنسان ليكون شخصاً نافعاً ناصحاً, كلُّ النّاس تسمع له وتأخذ منه فالمؤمن كالغيث أينما حلَّ نفع.
وأرجو الله تعالى بعد هذه الكلمات أن تبادري ابنتي فتصححي النيّة وتشمّري عن ساعد الجدِّ حتّى تكوني مع ركب أولئك السلف الصالح. فأنتِ ابنة خديجة وسميّة وفاطمة والخنساء وعائشة أمُّ المؤمنين رضيّ الله عنهنّ أجمعين, فأدركي الرّكب ولا تدعي الفرصة تفوتكِ فالنّاس موتى وأهل العلم أحياءُ.
وأختم الكلام بقول الشاعر:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنَّهُمُُُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
والحمد لله ربِّ العالمين, والصلاةُ والسلامُ على المعلم الأوّل سيِّدِ الأولين والآخرين إلى يوم الدين, وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته [/align]
مواقع النشر (المفضلة)