السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
:؛:
:؛:
السؤال:
السلام عليكم، قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، نعم القرآن هو شفاء النفس وحاميها، ولكن الإنسان يحتاج إلى ترويح خفيف من حين لآخر، ومن فينة لأخرى؛ فمن المستحيل أن يبقى الإنسان على قراءة القرآن والسنة والكتب طيلة حياته، فمما أعلمه أن الشارع حرَّم علينا لعب النّرد (الزهر)، والورق، وألعاب (الفيديو) التي يكون فيها أناس من صنع الخيال ... وغير ذلك، فماذا ترك لنا الشارع من أساليب اللهو والترويح المباح؟ وشكراً على اهتمامكم.
المفتي: خالد عبد المنعم الرفاعي الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل هدي؛ فكان يضحك ويمزح، ويختار المستحسنات، ويسابق عائشة رضي الله عنها وكان يأكل اللحم، ويحب الحلوى، ويستعذب له الماء.
وعلى هذا كانت طريقة أصحابه، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن عمرو بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل؛ فلا تفعل؛ فإن لجسدك عليك حظاً، ولعينك عليك حظاً، وإن لزوجك عليك حظاً"، وكان الْحَبَشَةُ يلعبون عنده صلى الله عليه وسلم بحرابهم؛ فدخل عمر، فأهوى إلى الحصى فَحَصَبَهُمْ بها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا عمر"، وقالت عائشة رضي الله عنها "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحَبَشَة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أَسأَم، فَاقْدُرُوا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو".
ودخل عليه أبو بكر يوم فطر أو أضحى، وعند عائشة قَيْنَتَانِ تغنيان بما تقاذفت الأنصار يوم بُعَاث، فقال أبو بكر: مِزمار الشيطان؟ مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم"، وقال عبد الله بن مسعود: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنا بالموعظة في الأيام، مخافة السآمة علينا". وبوَّب البخاري لهذا الحديث بقوله: "الموعظة ساعة بعد ساعة"؛ (متفق عليه).
و(روى مسلم) في "صحيحه" عن حنظلة الأسيدي قال: قلت: "يا رسول الله؛ نافق حنظلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك. قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراهما رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك، عَافَسنَا الأزواج والأولاد والضَّيعَات ونسينا كثيراً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكُمْ وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، ثلاث مرات".
قال أبو الفرج ابن الجوزي: "فلابد من التلطُّف بالبدن، بتناول ما يصلحه، وبالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له. وإلا فمتى دام المؤذي عجل التلف. ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل، فيقول: إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم. ويقول: كفى المرء إثماً أن يضيع من يقوت. ويحث على النكاح،... ويكثر من التزوُّج. وكان يتلطف ببدنه، فيختار الماء البائت ويحب الحلوى واللحم. ولولا مُسَاكَنة نوع غفلة لما صنَّف العلماء، ولا حُفِظ العلم، ولا كُتِب الحديث؛ لأن من يقول: ربما مت اليوم كيف يكتب وكيف يسمع ويصنف.
فلا يهولَنَّكُم ما ترون من غفلة الناس عن الموت وعدم ذكره حق ذكره، فإنها نعمة من الله سبحانه، بها تُقَوَّم الدنيا ويَصلُح الدين. وإنما تُذَم قوة الغفلة الموجبة للتفريط وإهمال المحاسبة للنفس، وتضييع الزمان في غير التزوُّد، وربما قويت فحملت على المعاصي. فأما إذا كانت بقدرٍ كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كَثُرَ صَار الطعام زعافاً. وقال: لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف. فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن. وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخْذُ الراحة للجد جد، وغوص السباح في طلب الدر صعود. ودوام السير يُحْسِر الإبل، والمفازة صعبة. ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى، وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير، فأما من جرد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى"، واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عواره، فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقيل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ولو أخرجها الإنسان لفظها.
ولو فكر في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته، فلابد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه كما قال لبيد:
واكذِبِ النَّفْس إذا حدَّثْتَهـا إنَّ صدْقَ النَّفسِ يُزْرِي بالأَمَلْ
وقال البستي:
أفِدْ طَبْعَكَ المَكْدُود بالهمِّ رَاحةً بِرَاح، وعلِّلْهُ بشيءٍ مِنَ المَزْحِ
لكِنْ إذا أعطيْتَه المَزْحَ فَلْيَكُنْ بمقدارِ ما نُعْطِي الطعامَ من المِلْحِ
قال أبو علي بن الشبل:
وإذَا هَمَمتَ فَنَاجِ نَفسَكَ بالمُنَى وَعْداً، فَخيرات الجنَانِ عِدَاتُ
وَاجعَل رَجَاءَك دُوْنَ يَأسِكَ جُنَّة حتَّى تَزُول بهمّك الأَوقَاتُ
وَاستُر عَن الجُلسَاء بثَّك، إِنَّمَا جُلَسَاؤُكَ الحسّاد والشّمّاتُ
وَدَع التَّوقُّع للحَوَادِثِ إنه للحيّ من قَبل المَمَاتِ مَمَاتُ
فَالهم لَيسَ لَهُ ثَبَات مِثل مَا في أَهْلِهِ مَا للسُّرُورِ ثَبَاتُ
لولاَ مُغَاَلطَةُ النُّفوسِ عُقُولها لم تَصْفُ للمُتَيقِّظين حَيَاة
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس، وما زالت النفوس ترى الظاهر، وإنما الفكر والعقل مع الغائب، ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش.
ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم ولا صنف... ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل معك على قدر صدق الطلب، وقوة اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق".
والحاصل: أن سماحة الإسلام وشموليته وواقعيته لم تغفل طبيعة الإنسان، وما جبل عليه من حب اللعب، وعدم الاستمرار على الجد بطريقة دائمة، ولذلك المباحات أضعاف المحرمات، فهذا التوازن العجيب، لا يوجد إلا في دين الله، الذي لم يُحرَّف ولم يُبدَّل، ولذلك لما طغى الجانب الروحي على الديانة النصرانية المُحَرَّفة، رفضها أتباعها، وتمردوا عليها؛ لأنها تصطدم بالفطرة الإنسانية، ولما أَهملت الفلسفة المادية الغربية الجانب الروحي أدى بكثير منهم إلى الفرار منها لإشباع حوائجهم الروحية، بل ربما أدى بهم ذلك إلى الانتحار -والعياذ بالله- وذلك للتخلص من الهموم.
وجاء الإسلام بالتوازن الطبيعي الذي فطر الله عليه الناس، وأعطى كل ذي حق حقه.
وأما ماذكرته أيها الأخ السائل من تحريم لعب الورق وألعاب الفديو: فإن غاية مافي هذه أنها مكروهة فقط إذا كانت لاتوصل إلى غرض شرعي، وإنما مجرد ضياع أوقات، لكن إذا كانت الألعاب تتضمن مايعود على المرء بالفائدة -وإن كانت بطريق اللعب- كالمسابقات الثقافية، أو غيرها فتكون مباحة أو مستحبة بحسب الغرض الحامل لها، وأما إن تضمنت أمورًا محرمة كقمارٍ ونحوه، فتكون محرمة،، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
مواقع النشر (المفضلة)