الحمدلله،والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد
الصهيونية
أولاً- النشأة:
الصهيونية حركة استعمارية ذيلية، أي أنها لم تنشأ مستقلة،لصالح دولة كبرى في النظام الدولي كالاستعمار الألماني أو البريطاني أو الفرنسي مثلاً، ولكنها نشأت كحركة تابعة للحركة الاستعمارية للدول الكبرى.
وقد سعت هذه الدول الكبرى من خلال الصهيونية إلى إنشاء دولة يهودية عميلة لها في قلب العالم العربي- الإسلامي، لتحقيق هدف مزدوج: الشق الأول منه هو التخلص مما يسمى المسألة اليهودية، وهي مسألة وجود أعداد ضخمة من اليهود في شرق أوربا الذين لم تتمكن دول أوربا الشرقية آنذاك من استيعابهم ضمن نظامها الاقتصادي الحديث ومجتمعها المسيحي المتعصب، فكان وجودهم مصدر تهديد لهذه الدول، وكانت احتمالات هجرتهم إلى غرب أوربا مصدر تهديد للدول الأوربية الغربية بما فيها اليهود الذين استقرت أوضاعهم في هذه الدول، فعملت الدول الأوربية الشرقية والغربية وزعامات اليهود الأوربيين الشرقيين والغربيين على التخلص من هذه المسألة، سواء بقتلهم كما فعل هتلر، أو بتصدير هذه المسألة إلى الخارج من خلال إنشاء دولة لهذه الجماعات في المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة هذه الدول الكبرى.
وكانت هناك مشروعات لتوطين هذه الجماعات في فلسطين أو في العريش أو كينيا أو الأرجنتين... إلا أن الاختيار وقع في النهاية على فلسطين.
وأما الشق الثاني فهو إنشاء دولة عميلة تدين بولائها ووجودها واستمرارها للدول الكبرى التي أنشأتها، فتخدم مصالح هذه الدول في المنطقة التي تقام فيها بكفاءة عالية لأنها لا تستطيع القيام والاستمرار بذاتها.
ولعل اختيار فلسطين بالذات يفيد أكثر من غيره في هذا المجال للأسباب التالية:
الموقع الاستراتيجي الخطير لفلسطين باعتبارها الجسر الواصل بين المشرق والمغرب العربيين، وبين البحر المتوسط والبحر الأحمر، ومن هذا المفصل بالذات كانت تأتي الغزوات الأوربية على العالم الإسلامي فتتجه شمالاً وشرقًا نحو الشام والعراق وآسيا الوسطى وأوربا، أو تتجه جنوبًا وغربًا في الساحل الشمالي لإفريقيا وإفريقيا ثم جنوب آسيا. وبالمثل كانت حركات توحيد العالم الإسلامي وإنشاء الدول القوية مرتبطة بهذا المفصل الخطير، فمنذ أيام الفراعنة كانت مصر والشام وحدة أمنية واحدة، ولم يكن من الممكن تحقيق الأمن أو التهديد لإحداهما إلا من خلال الأخرى، وعندما فتح المسلمون الشام أدرك عمرو بن العاص هذه الحقيقة وأقنع الخليفة عمر بن الخطاب بضرورة فتح مصر للحفاظ على أمن الشام، وعندما أراد صلاح الدين الأيوبي طرد الفرنجة، كان أول ما فعله هو توحيد مصر والشام، والأمر نفسه فعله محمد علي، وغيره من زعماء العصر الحديث. وكلها تجارب حاربتها القوى الغربية بضراوة.
وهكذا فإن كسر هذا المفصل أو تعزيزه كان هدفًا استراتيجيًا دائمًا لكل من حركات الاحتلال وحركات التحرر على السواء في صراعهما الممتد في هذه المنطقة من العالم.
والصهيونية تزعم أن اختيار فلسطين كان بسبب أهميتها الدينية والتاريخية لليهود، وهو زعم خاطئ تمامًا، لأن الصهيونية لم تكن حركة قائمة بذاتها حتى تختار لنفسها الموقع الملائم، بمعزل عن إرادة الدول الكبرى، فهي حركة ذيلية تخضع لحسابات القوى الكبرى التي ترعاها، وتلتزم بالمكان الذي تحدده لها هذه القوى.
كما أن اليهود على مر تاريخهم انتشروا في العالم- كأية جماعات بشرية- باختيارهم، وليس بسبب نفيهم من فلسطين وسبيهم إلى بابل في تاريخهم القديم. وبعد انتهاء مرحلة السبي البابلي استقر كثير من اليهود في العراق واشتغلوا بالزراعة، ولم يعودوا إلى فلسطين رغم أن الظروف كانت مواتية لذلك- وحتى الآن يفضل معظم يهود العالم البقاء في أوطانهم الحقيقية على الهجرة والاستيطان في فلسطين تحت مزاعم تاريخية ودينية. (يوجد في فلسطين ثلث يهود العالم فقط).
كما يذكر أن الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي وفي البلدان الآسيوية البعيدة كالصين مثلاً، لم تعرف الاضطهاد الذي عرفه اليهود في أوربا، ولذا لم ينشأ لديهم أي فكر صهيوني، وهو ما يؤكد ارتباط الصهيونية بالخبرة التاريخية الغربية تحديدًا.
أن فلسطين والشام تتكون من فسيفساء سكانية غير متجانسة من الأعراق المختلفة (عرب، أكراد، أرمن.....) وأديان ومذاهب مختلفة (مسلمين، مسيحيين، يهود، دروز....إلخ)، ومن ثم يسهل نسبيًا زرع جماعة أو جماعات إثنية ودينية جديدة فيها بالمقارنة بمجتمع متجانس. ويسهل الاستمرار في إذكاء الفتن والانقسامات وتفتيت هذه البيئة ضمانًا لاستقرار الكيان الأجنبي المغروس فيها. وهو الأمر الذي تفعله دولة الاحتلال الصهيوني (إسرائيل) وبرعاية ودعم كاملين من القوى الكبرى التي أنشأتها وتستمر في تأييدها، لأن هذا الواقع (التفتيت) يخدم مصالحهما المشتركة.
ثانيًا- المقولات الأساسية:
توجد داخل الصهيونية مدارس متنوعة (كلها نشأت في الدول الغربية أو في دولة الاحتلال إسرائيل) منها ما هو اشتراكي، وما هو ليبرالي، وما يركز على الأبعاد الثقافية وما يركز على الأبعاد الدينية، وما يركز على الأبعاد الاقتصادية، وما يركز على الأبعاد العملية العسكرية، وما يركز على الأبعاد الاجتماعية الديمغرافية، إلخ، ويوجد بينها صراعات كثيرة حول وسائل احتلال فلسطين، وشكل دولة الاحتلال، ولكنها تلتقي جميعًا في المقولات الأساسية، وأهمها:
أن اليهود يمثلون شعبًا واحدًا، سواء بالمعنى الديني لكلمة شعب (الصهيونية الدينية) أو المعنى القومي (الصهيونية العلمانية). وهو زعم خاطئ ؛ لأن اليهود يمثلون جماعات شديدة التنوع والتباين، من النواحي العرقية (يهود الفلاشا مختلفون عن يهود اليمن أو المغرب أو إيران أو اليهود الروس أو اليهود الأمريكيين)، ومن النواحي الدينية (هناك اليهود الأرثوذكس والمحافظون والإصلاحيون والملحدون….إلخ)، ومن النواحي الحضارية التي تعتبر نتاجًا لخبراتهم المجتمعية والتاريخية في مجتمعاتهم المختلفة.
أن هذا "الشعب اليهودي" مضطهد دائمًا، ولا يمكنه الاندماج في المجتمعات الأخرى، ولا تتحقق شخصيته الطبيعية والحقيقية إلا في فلسطين. وقد ثبت خطأ هذه المقولة من عديد من الجوانب، فاليهود لم يكونوا شعبًا واحدًا، فهم جماعات شتى، ولم يكونوا مضطهدين دائمًا، بل كانوا أسيادًا في كثير من المناطق، ومواطنين كغيرهم في كثير من الدول والمجتمعات، كما أن التاريخ شهد حالات كثيرة كان اليهودي يضطهد اليهودي الآخر ويتحالف مع الدول القائمة ضده (تحالف اليهود مع الرومان ضد بني جلدتهم في فلسطين إبان الحكم الروماني، وتحالف الصهيونية مع هتلر في إرهاب اليهود من أجل دفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين) كما أن معظم أعضاء الجماعات اليهودية يعيشون الآن مستقرين في أوطانهم الغربية والشرقية ولا يفكرون في الهجرة إلى دولة الاحتلال. والحقيقة أن أكثر اليهود معاناة من فقدان الأمن هم اليهود المستوطنون الآن في فلسطين.
أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهو أشهر مبادئ الصهيونية التي تحوي في الوقت ذاته منهجها في التعامل مع كل من اليهود في العالم، ومع الفلسطينيين والعرب، وذلك بإجبار اليهود وإغرائهم بالهجرة إلى فلسطين حتى "يعود" "الشعب" إلى أرضه، وتفريغ فلسطين من سكانها العرب لتصبح بالفعل "أرضا بلا شعب" فيهنأ فيها المحتلون الغاصبون بالغنيمة.
ولذا فالمشروع الصهيوني هو مشروع ديمغرافي (سكاني) أساسًا، وعماده الإتيان بمهاجرين لشغل الأرض والاستمرار في الحرب لصالح الدول الكبرى، وترحيل السكان الأصليين بقتلهم أو إرهابهم أو التضييق عليهم.
وأكثر ما يخشاه الصهاينة هو أن اليهود المنتظر أن يهاجروا إلى فلسطين بحكم ظروفهم الصعبة في أوربا وغيرها قد هاجروا، وأن اليهود المستقرين في أوطانهم في مختلف أنحاء العالم ليس لديهم ما يجبرهم على الذهاب إلى فلسطين والانغماس في مرجل الصراع الدامي مع سكانها، وهو ما دفع بدولة الاحتلال، وخاصة في السنوات الأخيرة، إلى الإتيان بمهاجرين ليسوا يهودًا، ولكنهم مستعدون للهجرة إليها بسبب أوضاعهم المعيشية السيئة، وفي المقابل فإن الفلسطينيين يتوالدون بمعدل يبلغ ضعف معدل توالد اليهود في فلسطين. وهو ما يهدد بانكماش الدولة الصهيونية وزوالها في النهاية. ولذا تعتبر مشكلة اللاجئين الفلسطينيين أخطر القضايا التي يدور حولها الصراع العربي- الإسرائيلي حاليًا.
ثالثًا- الفرق بين الديباجة والواقع:
الصهيونية كما سبق هي حركة استعمارية ضد اليهود وضد المسلمين على السواء، ضد اليهود لأنها توظفهم لخدمة الدول الاستعمارية الكبرى، وتزج بهم في أتون صراع مشتعل، وتنظر إليهم على أنهم وسيلة لتنفيذ المخططات الغربية، وضد المسلمين لأنها تغتصب أرضهم وتقتل وتشرد أبناءهم، وتستنزف مواردهم.
ونظرًا إلى هذه الطبيعة المنفرة، فقد عمل آباء الصهيونية على إلباس مشروعهم هذا لباس الدين والتاريخ، واستشهدوا بالتوراة وبتاريخ العبرانيين القدماء في فلسطين لكي يثبتوا أن لهم حقًا في فلسطين، متجاهلين أن الديانة اليهودية تحرم إقامة الدولة اليهودية بالقوة، وتعتبر أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ستكون على يد الماشِيَّح (المسيح اليهودي حيث لا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بالمسيح ابن مريم) في آخر الزمان، (وهو ما لم يزل بعض اليهود يؤمنون به حتى الآن ويعتبرون أن قيام إسرائيل باطل وذنب)، ومتجاهلين أيضًا حقائق التاريخ التي تؤكد أن معظم يهود العالم في المراحل التاريخية المختلفة كانوا خارج فلسطين وليسوا داخلها، سواء قبل هدم هيكل سليمان أم بعده، ومخفين عن عمد أنه حتى لو كان لليهود حق في فلسطين- جدلاً- فليس من حقهم أن يطردوا أهلها الفلسطينيين منها. ولا يخفى أن هذه التبريرات تهدف إلى إخفاء الطابع الاستعماري العميل للصهيونية ودولتها.
مواقع النشر (المفضلة)