في الحرب العالمية الثانية خصصت عنابر ليتامى الحرب من الأطفال، ولوحظ في حينها أن عنبرا منها كان أطفاله أكثر هدوءا وسكينة، وأقل نسبة وفيات من غيره، وكانوا طيعين أكثر لممرضاتهم، يستمعون لكلامهن وينفذون أوامرهن وطلباتهن، وكانت كل هذه الملاحظات دافعا قويا لأحد الأطباء لطرح سؤال مهم على نفسه: لماذا أطفال هذا العنبر بالذات يتصفون بهذه الصفات؟
وبدأ يقارن بين هذا العنبر وغيره فوجد أن طعام العنابر كلها متشابه، والعناية الطبية فيها متشابهة، ولم يميز ذلك العنبر عن غيره إلا أمر واحد فقط أن امرأة عجوزا تسكن بالقرب منهم تزورهم كل يوم تمسح على رؤوسهم وتحتضنهم، وكانت المفاجأة الكبرى أن نسبة الوفيات والمرض وكذلك التخلف العقلي عند الذين حرموا من اللمس أعلى ممن كانوا يلمسون.
كانت ملاحظة ذلك الطبيب إيذانا بتجارب كثيرة أجريت على القرود والفئران التي حرمت من اللمس مقارنة بغيرها ممن منحت لمس الأم أو غيرها، وأهمية الجلد واضحة عند مربي المواشي والخيول الذين يكثرون من لمسها والتربيت عليها، والفلاحون يعرفون جيدا أن لحس أنثى البقر أو الغنم أو الماعز لوليدها مهم جدا لاستمرار حياته، وقد تبين فيما بعد أن الكثير من أمهات الثديات تقوم بلحس صغارها عند ولادتها لتحفيز أجهزة معينة للعمل، وحين حرمت الفئران من هذه العملية ماتت.
قصة أطفال العنبر تؤكد أن لمس جلد البشر لا يقل أهمية عن لمسه عند باقي الكائنات الحية، إن وزن الجلد عند الإنسان البالغ يصل إلى حوالي 5.5 كيلو جرامات، وفي كل سنتمتر مربع منه حوالي 3 ملايين خلية بين عرقية وعصبية ودهنية وشعرية دموية، ويقول العلماء أن في الجلد ما يعادل خمسة ملايين خلية عصبية، تحتاج إلى لمسها للمحافظة على حيويتها وحياتها، وإذا كنا متفقين على أن الماء والهواء والغذاء عناصر مهمة جدا لاستمرار كل منا، فإننا بحاجة أيضا إلى لمس جلودنا حتى نحافظ على حياتنا، فكثيرون هم الذين يشعرون أن شيئا ما قد مات فيهم حين يفقدون لمس جلودهم، ولا أعتقد أن حرص المصطفى عليه الصلاة والسلام على لمس رأس اليتيم كان عابثا، فقد روي عن أبي هريرة: أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه؛ فقال: «إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين»، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات»، وذلك لسبب وجيه أن اللمس رسالة متعددة المعاني ففيها الحب والمشاركة والرحمة والطمأنينة والدعم والتشجيع.
ما لا يعرفه الكثيرون أن اللمس به كل ذلك وبه أيضا حياة للجلد نفسه، وحين لا يلمس الجلد يمرض، وفي الجلد نهايات عصبية خاصة باللمس والحس بالنعومة والخشونة والبرودة والحرارة، لذا سماه البعض العين الثالثة، والمخ الثاني فهو وسيلتنا لإدراك ما يدور حولنا، وقد وجد بعض الباحثين الذين رصدوا بكاميرات خاصة دقيقة مجموعة من الأشخاص في مكان ضيق أن جلودهم تقلصت وأخرجت روائح دفاعية كريهة تشبه ما تصدره الحيوانات المطاردة، كما وجد هؤلاء الباحثون أن جلدنا حين نكون مع من نحب يتمدد، ويصبح رطبا، ويصدر روائح طيبة، ويتدفق الدم فيه، فالجلد مصدر الإحساس الرئيسي في أجسادنا،
ربما كان مناسبا جدا أن نذكر أن المرأة بحاجة إلى اللمس أكثر من الرجل لسبب وجيه يكمن في أن هرمون الإستروجين يجعل جلدها أرق، وقد ثبت أن المرأة التي تتلقى لمسا أكثر يقل ظهور التجاعيد في جلدها، وتنتظم دورتها الشهرية، وتصبح قابليتها للإخصاب أقوى ويصبح تحملها أعلى لضغوط الحياة وهمومها، فهل بقي شك لدى الجميع بأهمية أن يلمس كل شريك شريكه ويمسح على رأسه ويربت على جسده؟ وأن نكثر من حضن أطفالنا ولمسهم والمسح على رؤوسهم؟
مواقع النشر (المفضلة)