السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحوال الأشقياء في الدنيا والآخرة
إن الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . . .
وبعد :
فإن الله عز وجل بحكمته وعدله قد أوضح طريق الهداية ودل عليه وحذر من طريق الغواية وأنذر منه .
والناس على حالين إما سعداء أو أشقياء . وفي معرفة حال الأشقياء في الدنيا والآخرة بعد عن طريقهم وهرب من مسلكهم .
* حياة الأشقياء في الدنيا :
في شقاء وتعب وصدورهم ضيقة لأن قلوبهم لم تخلص إلى اليقين والهدى وإن تنعم ظاهرهم فلبسوا ما شاؤوا وأكلوا ما شاؤوا وسكنوا حيث شاؤوا . . قال تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى 124 ) [ طه : 124 ] .
* * حال الأشقياء عند نزول الموت بهم :
تأتي ملائكة الموت الكافر والمنافق في صورة مخيفة . . ففي حديث البراء بن عازب أن رسول الله r قال : ( إن العبد الكافر ( وفي رواية الفاجر ) إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة ( غلاظ شداد ) سود الوجوه معهم المسوح ( من النار ) فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال فتغرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود ( الكثير الشعب ) من الصوف المبلول ( فتقطع معها العروق والعصب ) .
* سكرات الموت :
لقد وصف لنا القرآن الكريم الشدة التي يعاني منها الكفرة عند الموت فقال عز من قائل : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون 93 ) [ الأنعام : 93 ] .
وهذا الوصف يحدث إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتنفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج ! فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم . [ تفسير ابن كثير ]
* * رحلة الروح إلى السماء :
وتحدث عليه الصلاة والسلام عن الروح الخبيثة التي نزعت من العبد الكافر أو الفاجر فقال عنها بعد نزعها : فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء ، وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعود روحه من قبلهم ! ! فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يجعلونها في تلك المسوح ويخرج منه كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاء من الملائكة إلا قالوا : ماهذا الروح الخبيث ! فيقولون : فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ عليه الصلاة والسلام ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين 40 ) [ الأعراف : 40 ] .
فيقول الله عز وجل ( اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ثم يقول : أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتطرح روحه من السماء طرحا ً حتى تقع في جسده ثم قرأ ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق 31 ) [ الحج : 31 ] .
وقال : قتادة روحه إلى جسده .
* * عذابه في القبر :
وقال رسول الله ( ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول هاه لا أدري فيقولان له : ما دينكم ؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فلا يهتدي لاسمه ! ! فيقال محمد ، فيقول هاه هاه لا أدري ! سمعت الناس يقولون ذلك ، قال : فيقولون لا دريت ولا تلوت . فينادى مناد : أن كذب عبدي فافرشوا له من النار وافتحوا له بابا ً ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره حتى تختلف فيه أضلاعه فيقول : رب لاتقم الساعة .
* * حاله عند قيام الساعة :
يقوم في ذلك اليوم شاخصة عيناه من الفزع تظل مفتوحة مبهوتة مذهولة مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تحرك ويمشي بسرعة لا يلوي على شيء ولا يلتفت إلى شيء رافعا رأسه لا عن إرادة ولكنه مشدوها لايملك له حراك وقد اسود وجهه وعليه الذلة والصغار ، أما قلبه فهو خالي لا يضم شيئا ً يعيه أو يحفظه أو يتذكره فهو هواء خواء قال تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا ً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار 42 مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء43 ) [ إبراهيم : 42 ـ 43 ] .
ويدعون بالويل والثبور ( قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا ) [ يس : 52 ] .
قال ابن كثير : مادعوا بالويل عند انقطاع العذاب عنهم إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه ولولا أن الأمر ذلك ما استصغر القوم ما كانوا فيه ثم يبكي حتى يبل لحيته ويتمنى الكفار في ذلك اليوم أن يهلكهم ويجعلهم ترابا ً ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض . . ) [ النساء : 42 ]
فما بالك بأقوام كانت مناياهم هي غاية المنى ! ! !
* * أغلال وسلاسل ومطارق :
قال تعالى ( خذوه فغلوه 30 ثم الجحيم صلوه 31 ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ً فاسلكوه 32 ) [ الحاقة : 30 ـ 31 ] .
وقال ابن كثير : أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفا من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ، وقال ابن عباس ( فاسلكوه ) تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم ( ولهم مقامع من حديد 21 كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق 22 ) [ الحج : 21 ـ 22 ] .
* * إحاطة النار بالكفار :
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم فإن الجزاء من جنس العمل ولذا فان النار تحيط بالكفار من كل جهة كما قال سبحانه وتعالى : ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش . . ) [ الأعراف : 54 ] .
والمهاد مايكون من تحتهم ، والغواش جمع غاشية وهي التي تغشاهم من فوقهم والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، وقد صرح الله عز و جل بالإحاطة في موضع آخر ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين 54 ) [ العنكبوت : 54 ] .
* * عظم خلق أهل النار :
يدخل أهل الجحيم النار على صورة ضخمة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقهم ففي الحديث الذي يرفعه أبو هريرة إلى الرسول r قال : ( إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً ، وإن ضرسه مثل أحد ، وإن مجلسه من جهنم مابين مكة والمدينة ) .
* * اطلاع النار على الأفئدة :
ومن عظم خلقهم فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم ( سأصليه سقر 26 وما أدراك ما سقر 27 لا تبقي ولا تذر 28 لواحة للبشر 29 ) [ المدثر ك 26 ـ 29 ]
وقال بعض السلف في قوله ( لاتبقي ولا تذر ) قال : تأكل العظم واللحم والمخ ولاتذره على ذلك . . وقال تعالى : ( كلا لينبذن في الحطمة 4 وما أدراك ما الحطمة 5 نار الله الموقده 6 التي تطلع على الأفئدة 7 ) [ الهمزة : 26 ـ 29 ] .
قال محمد بن كعب القرظي : ( تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشيء خلقه ) .
وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية ثم قال ( تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء لقد بلغ منهم العذاب . . ثم يبكي ) .
* * طعام أهل النار وشرابهم :
طعام أهل النار الضريع والزقوم ، وشرابهم الحميم والغسلين والغساق قال تعالى : ( ليس لهم طعام إلا من ضريع 6 لايسمن ولا يغني من جوع ) [ الغاشية : 6 ـ 7 ] .
والضريع : شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق وهذا الطعام الذي يأكله أهل النار لا يفيدهم فلا يجدون لهم لذة ولا تنتفع به أجسامهم فأكلهم له نوع من أنواع العذاب ، وقال تعالى : ( أذلك خير نزلا ً أم شجرة الزقوم 62 إنا جعلنا فتنة للظالمين 63 إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم 64 طلعها كأنه رءوس الشياطين 65 فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون 66 ثم إن لهم عليها لشوبا ً من حميم 67 ثم مرجعهم لألى الجحيم ) [ الصافات : 62 ـ 68 ] .
ويؤخذ من هذه الآيات أن هذا الشجر قبيح المنظر ولذلك شبهة برؤؤس الشياطين وقد النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم ، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفرا ً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلى في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت فيجدون لذلك آلاما ً مبرحة فإذا بلغ الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم وهو الماء الحار الذي تناهى حره فشربوا منه كشرب الإبل تشرب ولا تروى لمرض أصابها . . قال تعالى : ( فشاربون شرب الهيم ) [ الواقعة : 55 ] .
وعند ذلك يقطع الحميم أمعائهم ( وسقوا ماء حميما ً فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ] .
هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم ! ! أعاذنا الله من حال أهل النار بمنه وكرمه .
وقد صور لنا الرسول r شناعة الزقوم وفظاعته فقال : ( لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم ) ؟ ! ! فكيف بمن يكون طعامه !! .
ومن طعام أهل النار الغسلين والغساق وهما بمعنى واحد وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد وقيل ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم وقال القرطبي : هوعصارة أهل النار وقال تعالى : ( فليس له اليوم هاهنا حميم 35 ولا طعام إلا من غسلين 36 ) [ الحاقة : 35 ـ 36 ] .
( هذا فليذوقوه حميم 57 وآخر من شكله أزواج 58 ) [ ص : 57 ـ 58 ] .
ويقرب له الصديد السائل من الجسوم يسقاه بعنف فيتجرعه غضبا ً وكرها ولا يكاد يسيغه لقذارته مرارته يشربه وهو متقزز متكره منه ، ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان ولكن ( لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) [ فاطر : 36 ] .
ليستكمل عذابه ومن ورائه عذاب غليظ أشد وأوهى وأمر من العذاب الذي قبله . . . قال تعالى ( ويسقى من ماء صديد 16 يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ 17 ) [ إبراهيم : 16 ـ 17] .
* * حسرتهم وندمهم ودعاؤهم :
عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم ويعلوا صراخهم ويشتد عويلهم ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار قال تعالى : ( قالوا ربنا علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين 106 ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون 107 قال اخسئوا فيها ولا تكلمون 108 ) [ المؤمنون : 106 ـ 108 ] .
. . لقد صاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ، ولا يقبل فيه رجاء عند طلبهم يرفض بشدة . . عند ذلك يسألون الشفاعة كي لا يهلكهم ربهم ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون 77 ) [ الزخرف : 77 ] .
لاخروج من النار . . . لا تخفيف من العذاب . . ولا إهلاك بل هو العذاب الأبدي السرمدي الدائم وهي ( إنها عليهم مؤصدة 8 في عمد ممددة ) [ الهمزة : 8 ـ 9 ] .
* * * اللهم أجرنا من النار ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك . .
..م..
مواقع النشر (المفضلة)