حكمة المعراج
ما أعظم حكم الإسراء والمعراج وما أكثر مننها على المؤمنين ولكني أذكركم وأذكر نفسي معكم بمنَّة واحدة إذا وعيناها وفقهناها نلنا بها رضوان الله في الدنيا والآخرة فقد كان من حكمة هذه الرحلة العظمى إظهار كمال توحيد الله وإنه جل وعلا ليس في زمان ولا مكان وفوق الطاقة والإمكان لا يظهره الحدثان الليل والنهار ولا تلحظه العينان ولا يخطر ببال أي إنسان شئ ولو قليل من صفات ذاته أو قريب من كمالات نعوته وأسمائه وصفاته لأنه حير الأفكار ونوع الأقدار وأقام الأقطار كلها تشهد في صنعتها على بديع صنع الواحد القهار فقد كان السابقون لنبينا من الأمم غير الأنبياء والمرسلين فهم معصومون ينسبون لذات الله مكاناً يظهر فيه وزماناً يتجلى بقدرته فيه فأخذ الله الحبيب وذهب به إلى كل عوالم الأكوان بل كل عوالم أنشأها مكون الأكوان حتى وصل إلى حيث لا زمان ولا مكان فالزمان والمكان هنا يحيزهم ويظهرهم تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر أما في عوالم الملكوت العليا فلا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار بل فلك دوار بأمر الواحد القهار لا يعلم قراره حتى سكانه من الملائكة الأبرار والكل يُسلم أمره للواحد القهار ليس عندهم سَنَة ولا يوم ولا شهر لأن الذي يحدد ذلك الليل والنهار والشمس والقمر فجاب النبي عوالم السماء عالماً بعد عالم حتى وصل إلى سدرة المنتهى وهي التي ينتهي عندها علم الخلائق أجمعين من الجن والإنس والملائكة
المقربين وأهل عالين وأهل عليين فكل أصناف الخلائق ينتهي علمها عند سدرة المنتهى ولا يعلمون ما ورائها من العوالم ولا من خلفها من عوالم الطهر والبهاء والضياء والجمال والكمال لأن هذا أمر مخصوص بسيدنا ومولانا رسول الله فأوقف الله الرسل في السموات كل رسول وقف حيث انتهى علمه الذي علمه له الله وأعلاهم قدراً سيدنا إبراهيم خليل الله وكان يقف مسنداً ظهره إلى البيت المعمور ورائه ملائكة كل سماء حيث مكانتهم في الطهر والضياء بحسب ما علّمهم آدم كما أنبأ الله من الأسماء وأعلاهم قدراً جبريل الأمين وقد وقف عند سدرة المنتهى وقال إلى هنا انتهى مقامي قال: يا أخي يا جبريل أها هنا يترك الخليل خليله؟ قال: يا محمد أنا لو تقدمت قدر أُنملة (مثل طرف الأصبع) احترقت وأنت لو تقدمت لاخترقت فعلم أن حدود علمه عند هذا المكان والذي قال له الله {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} اخترق وتجاوز إلى قاب قوسين أو أدنى ليعلمنا الله ويعلم رسل الله وأنبياء الله وملائكة الله أن هذا النبي الكريم أعلاهم علماً وأفضلهم مقاماً وأرفعهم تكريماً ودرجة عند الله لكن ليس معنى ذلك أن هناك وجه لله فالله كما قال لنا أجمعين{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ولذلك تفضل علينا وعليه بالصلاة حتى نعلم علم اليقين أن القرب بيننا وبين حضرة الله ليس قرب زمان ولا تلاشي مسافات ولا إذهاب حدود ولا اتجاه إلى جهات وإنما القرب بينك وبين الله أن تدني قلبك في مناجاتك لحضرة الله وتغلق أمام أذن قلبك ما توسوس به نفسك مما رأيته أو شهدته أو سمعته من أقوال في حالة المناجاة تجد الله معك وتجد الله في قلبك وتجد الله أقرب إليك من كل شئ لك أو في نفسك أو من حولك أقرب إليك من زوجك التي بجوارك ومن أولادك الذين معك بل من نفسك التي بين جنبيك لأنه أقرب إلى كل شئ من نفس الشئ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ}أين الله؟ في قلب كل عبد مؤمن بالله
ليس في السموات وإن خلقها وكورها وأبدعها وصنعها وليس في الأرض وإن كانت لا تخلو ذرة من عوالم الأرض من وجود قدرته ومن بصمة حكمته ومن إبداع صنعته لكن الله في قلوب المؤمنين قال سيدنا موسى وهو يكلم مولاه: يا ربَّ أين أجدك؟قال: تجدني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي في قلوب المؤمنين وفي إيقان الموقنين وفي إسلام المسلمين فعندما يعلم المرء منّا أن عين الله ترعاه وأذن الله تسمع حديثه ونجواه والله مطلع على كل ظاهره وخفاياه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} يكون في هذا الحال وليس في هذا الوقت يكون في هذا الحال مع الله بلا زمان ولا مكان ولا حيطة ولا إمكان {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ( فإذا اتجه إلى أي جهة وقال يا رب سمع نداه ولباه وقال: لبيك عبدي لك ما تريد مني {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} إن كان في البحر أو في البر أو في الجبل أو في مكان محصور أو حتى في بطن الحوت فقد سُئل رجل من الصالحين عن أقرب ما يكون العبد من ربه قال: أما سمعتم قول رسولكم {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ}[1] وهو في حالة السجود وقد نسى كل ما أحاط به من شوارد الأفكار ومن نوازع النفس والأهواء واشتغل بكله بالله في حالة الصفاء إن يونس عندما ابتلعه الحوت وكان في بطنه والحوت في قاع البحار والمحيطات ناجى الله فماذا قال لحضرة الله؟كأنه في قاب قوسين أو أدنى وهو في حال المناجاة لأنه يقول{ لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}ما الدليل على ذلك؟ ردَّ الله عليه حيث قال{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} استجاب له وهو في بطن الحوت ليعلمنا أنه ليس بينك وبينه مسافات ولا يفصله عنك حدود ولا حواجز ولا جهات وإنما الذي بينك وبين الله هو الذنوب والعيوب التي تُغطي على صفحة القلب فإذا أزلت الذنوب بالتوبة النصوح
وأزلت العيوب بكثرة الذكر لله كشف الله حجاب قلبك فكنت من أهل الحضرة العلية فتناجي الله وتسمع تلبية الله لندائك وأنت في المناجاة أو وأنت في الصلاة ولذا في ذلك يقول النبي { إن العبد إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه فإذا توالت الذنوب فذاك الران ( يعني الغطاء أو الستار) ثم تلي قول الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[2] إذاً من أين الحجاب؟ من العيوب والذنوب يا أحباب وذلك كما أنبأ الله في الكتاب فإذا محوت الذنوب بالتوبة والندم والاستغفار وأزلت العيوب بكثرة الذكر لله في الليل وفي النهار ورفعت الحجب والأستار كلما قلت يا رب، لباك وفي هذا يقول سيدي جعفر الصادق { كلما احتجت إلى شئ قلت يا ربَّ عبدك جعفر يحتاج إلى كذا فما استتم كلامي إلا وأجد هذا الشئ بجواري}وقال الإمام على عندما سألوه كيف حالك مع الله؟قال{إذا دعوت أجابني وإذا طلبت أعطاني وإذا سكتُّ افتتحني بالكلام} فكانت حكمة الصلاة لنعلم أن الله معنا فالصلاة تليفون محمول لا تدفع له الرسوم وليس له وقت معلوم تخاطب به في أي زمان ومكان الحي القيوم وتجده أقرب إليك من كل شئ، نجدة إلهية لمن يستغيث بها في كل بلية قال قوم يا رسول الله { أربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه ؟ }[3] فنزل في الحال قرآن إلهي من الواحد المتعال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }كان فضل الله علينا بالإسراء عظيماً فإن من قبلنا قد ضلوا الطريق فجعلوا حائطاً للبكاء لمن أراد أن تمحى ذنوبه ولا تمحى إلا إذا ذهب إلى هذا الحائط وبكى الدموع والآخرين جعلوا التوبة مربوطة بقلب رجل يذهبون إليه ويجلسون بين يديه ويعترفون له دون الله بذنوبهم وفي يده محو ذنوبهم أو عدم قبول توبتهم لكن الله تجلى لنا فلم يجعل بيننا وبينه مكان ولا زمان ولا حاجز ولا حائط وإنما الله معنا حيثما توجهنا وهو في قبلتنا حينما صلينا ويسمع نداءنا إذا نادينا على أي حال كنا وفي أي زمان كنا أخبرنا سبحانه بأنه لا يحتاج إلى واسطة بيننا وبينه إلا أن نزيل الجفا الذي على القلوب ونمحو الستائر التي تحجب القلوب عن حضرات علام الغيوب ثم بعد ذلك لا يزال الله منك على بال تذكره أينما توجهت ولا يزال لسانك رطباً بذكره فتكون في أي مكان وفي أي زمان وأنت على أي لون وعلى أي شكل وعلى أي حال فقير أم غني لا يهم المهم هو تقوى الله هي التي تقربك من الله ما الذي يجعلك قريباً من الله؟
أن تعمر قلبك بالإيمان وتقوى الله لا تحتاج بعد ذلك إلى أحد فلو ملكت التقوى وأنت ها هنا والله معك حيثما تحدثت ويلبيك فيما أردت وإذا كان معك مال وذهبت إلى الحرم الشريف وطفت حوله بدل المرة سبعين لكن قلبك مشغول بالدنيا عن الله وعن الدين فهل يكرمك الله كما يكرم عباده المتقين؟ لا. لأنه قال {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}وانظر إلى عظمة النبي الكريم إذ يروى سيدنا رَبِيعَةَ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ قال { كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ. فَقَالَ لِي: سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذٰلِكَ؟، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ }[4] فدله على الطريق الصحيح صلوات الله وسلامه عليه فإذا أنت سهوت أو نسيت أو غفلت أو شغلت بالدنيا عنه عز وجل فارجع إليه وتب إليه وهو {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }
[1] عن ابن مسعود رواه أبو يعلى في صحيح ابن حيان.
[2] عن أبي هريرة رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
[3] منازل السالكين بين إياك نهبد و إياك نستعين، محموع فتاوى ابن تيمية
[4] صحيح مسلم
منقول من كتاب [الخطب الإلهامية رجب والإسراء والمعراج]
مواقع النشر (المفضلة)