أعظم الأسباب التي يرق بها قلب العبد لربه تلاوة القرآن، فلا يلين القلب بشيء مثل كلام الله- هذا الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، إذا وضعه العبد فتأمله وتدبره وكان من المتعظين بكلام الله- رق قلبه لله: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ
فمن أعظم نعم الله على العبد - مما يعين على رقة قلبه وخشوعه لله - كثرة تلاوة القرآن، التلاوة مع التدبر والتأثر: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} فأرق الناس قلباً من إذا قرأ آيات الكتاب هزت فؤاده، وأخشع قلبه، وشرحت صدره، يتلو آيات الله-جل وعلا- فتخرجه من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، تخرجه إلى الوعد فيطير فرحاً بوعد الله - واستبشاراً برحمته، وتأخذه إلى الوعيد فكأن زفير جهنم بين أذنيه، فينكسر لله قلبه ويخشع لله فؤاده، أسعد الناس في هذه الدنيا من جعل الله - القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، ولذلك تجد أهل القرآن أرق الناس قلوباً؛ لأن الله كسر قلوبهم بمواعظه: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} القسوة مرض، والله يشهد أن شفاءها في كتابه، فلا يرق قلب العبد لله بشيء مثل كتاب الله، ولذلك قال النبي - لعبد الله بن مسعود: (( اتلُ علي القرآن )) قال: " - يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ " قال: (( إني أحب أن اسمعه من غيري )) قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قول الله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً @ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فقال لي: (( حسبك )) فنظرت فإذا عيناه تذرفان فكان أكمل الناس خشوعاً لكتاب الله، وكان يقرأ في صلاة الظهر وحتى يسمع لتلاوته كغلي المرجل من بكائه ورقته-عليه الصلاة والسلام- لكتاب الله-جل وعلا-، وكان السلف الصالح من الصحابة-رضوان الله عليهم- كانوا يخشعون لكتاب الله، فكان الواحد منهم أرق قلباً وأخشع فؤاداً وأشرح صدراً بكلام الله-جل وعلا-، ولربما يكون في سَوْرة الغضب فإذا ذكر بالآية من كتاب الله انكسر قلبه، ولربما تكون الدنيا بين يديه فإذا تلا شيئاً من كتاب الله أنفقها لوجه الله-جل وعلا-، فالذي يريد السعادة التامة الكاملة برقة قلبه وصلاح حاله فليضع كتاب الله أمامه إماماً له في كل خير وبر. ومن أعظم الأسباب التي ترقق القلب: الدعاء، أن يسأل الله قلباً خشعا وأن يستعيذ بالله من قسوة القلب، وأن يسأل الله أن يصرف عنه الفتن والمحن التي تقسي القلوب.
مما يعين على رقة القلب: بر الوالدين، فمن بر والديه وأحسن إليهما وأدخل السرور عليهما شرح الله صدره ونور قلبه وجعل قلبه رقيقاً، فيكون من أهل الجنة الذين ترق قلوبهم بكل خير، وتنشرح صدورهم بكل طاعة وبر، من هو السعيد ؟! الذي بر والديه، فبر أُماً لم ينس حقها وفضلها، وبر أباً كريماً لم ينس حقه وفضله، فتجده كلما خرج من عند أبيه وأمه رفعت له الأكف من وراء ظهره بصالح الدعوات، فتتغشى عليه الرحمات، فتجده أرق الناس قلباً وأصلحهم حالاً، والعكس بالعكس، فمن أعظم الأسباب التي تقسي القلوب: عقوق الوالدين-نسأل الله السلامة والعافية-.
مما يعين على رقة القلب: زيارة الأرحام وصلتهم، فيتفقد الأعمام والعمات والأخوال والخالات، ولو كانوا بعيدين يسافر إليهم يُعرِّف أبناءه كيف يصلون الرحم، فيدخل على العم والعمة وعلى الخال والخالة يدخل عليهم باراً رضياً واصلاً لرحمه، متقياً لربه فيصله الله بصلته، فهو الرحمن خلق الرحم واشتق لها اسماً من اسمه، فمن وصلها وصله، ومن قطعها قطعه، فإذا وصل رحمه وصله الله فكان أرق الناس قلباً، وقل أن تجد قاطعاً للرحم رقيق القلب-نسأل الله السلامة والعافية-.
كذلك - أيضاً - مما يعين على رقة القلب: حب العلماء والصالحين، والدعاء لهم بخير أحياءهم وأمواتهم، فيحبهم ويحب مجالسهم ويحب سماع كلامهم؛ لأنهم هم أهل الله وأهل ولايته وطاعته الذين يأمرون بأمره، وينهون عن نهيه وزجره، فضلهم الله على عباده، فجعلهم أمناء على وحيه - خاصة أئمة السلف ودواوين العلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، لا يذكرون إلا بكل خير، يترحم عليهم ويذكر مآثرهم ويشيد بفضلهم، وأما الأحياء يزورهم ويدعو لهم ويسأل الله لهم الخير كما يحبه لنفسه؛ لأنه يعلم مايكون للأمة من النفع والخير.
كذلك - أيضاً - مما يعين على رقة القلب: الإحسان إلى المسكين: { فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ @ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ @ فَكُّ رَقَبَةٍ @ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ @ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ @ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ @ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} انظر كيف ؟ بعد ما جاءت الآيات قال: { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فالرقيق هو الذي يوصي بالمرحمة؛ لكن متى ؟ لما: اقتحم ما العقبة والعقبة شيء صعب ما يستطيع أن يصل إليه الإنسان إلا: { فَكُّ رَقَبَةٍ} وهذا من أعظم من فك الرقاب وعتق الأماء والأرقاء لما فيه من عظيم إدخال السرور عليهم، { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ @ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ @ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} تصور أرملة من أرامل المسلمين تراها وهي وافقة على مزبلة أو وافقة تستطعم لأولادها تجمع فتقف عليها وتعطيها ما تيسر من المال وهي تكدح لأولدها وفلذة كبدها قد يكونوا أيتاماً، فإذا جئت وأعطيتها ذلك المال، كم يدخل على قلبك من السرور والرحمة ! والله قل أن تجد من الأمور التي يوصي بها العلماء، ومجربة عند الصالحين والأخيار، من أعجب ما تكون في حسن العاقبة للعبد: الإحسان للنساء الضعفة، فإنك تجد الأرملة من أرامل المسلمين في حالة من الضيق والكرب في دين أو حاجة، فتقف عليها وتقضي حاجتها، ما تبرح قدمك من المكان الذي أنت فيه، بل بعض الأحيان قبل أن تغادر إلا وجدت من رقة القلب وخشوع القلب ما الله به عليم ! والناس على درجات، وكم من عبدٍ أسعده الله بدعاء أرملة في ظلمة ليل أو ضياء نهار ! قال(الساعي على الأرملة واليتيم كالقائم الذي لا يفتر، والصائم الذي لا يفطر) نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يرزقنا رقة القلب وصلاحه.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَـْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعيــــــــــن.
المصدر: موقع فضيلة الشيخ الدكتور:محمد بن محمد المختار الشنقيطي
مواقع النشر (المفضلة)