الصوم جنة
د. خالد سعد النجار
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الصيام جنة وحصن حصين من النار)(1). رمضان هو شهر انتصار المسلم، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى..انتصار على الشيطان، وانتصار على الشهوات، وانتصار على السيئات، وانتصار نفخة الروح على طينة الأرض! وإذا نظرت لهذا الحديث الجامع ترى أن ذلك وكأنه واقع يراه القاصي والداني، قال المناوي: (الصيام جنة) أي وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح وفي الآخرة من النار، لأنه يقمع الهوى ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فإن الشبع مجلبة الآثام منقصة للإيمان، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه" فإذا ملأ بطنه انتكست بصيرته وتشوشت فكرته، ولا يمكنه نظر صحيح، ولا يتفق له رأي صالح، وقد يقع في مداحض فيروغ عن الحق كما أشار إليه خبر "لا تشبعوا فتطفئوا نور المعرفة من قلوبكم" وغلب عليه الكسل والنعاس فيمنعه عن وظائف العبادات، وقويت قوى البدن وكثرت المواد والفضول فينبعث غضبه وشهوته وتشتد مشقته لدفع ما زاد على ما يحتاجه بدنه فيوقعه ذلك في المحارم، قال بعض الأعلام: صوم العوام عن المفطرات، وصوم الخواص عن الغفلات، وصوم العوام جنة عن الإحراق، وصوم الخواص جنة لقلوبهم عن الحجب والافتراق (2).
وفي نفس المعني قال - صلى الله عليه وسلم - أيضا (الصوم جنة من عذاب الله) (3) فليس للنار عليه سبيل كما لا سبيل لها على مواضع الوضوء، لأن الصوم يغمر البدن كله فهو جنة لجميعه برحمة اللّه من النار، وقال - صلى الله عليه وسلم - (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) (4) وأصل الجنة [بالضم] الترس الذي يحتمي به المحارب، وشبه الصوم به لأنه يحمي الصائم عن الآفات في الدنيا وعن العقاب في الأخرى كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال) (5) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (الصيام جنة وهو حصن من حصون المؤمن) (6) .
* فرمضان بما فيه من صنوف البر الكثيرة يعد معسكرا للتوبة نتبدل فيه من أصحاب معاصي وسيئات إلى أصحاب طاعات وفعل خيرات، وليس هناك من الطاعات طاعة جمعت ما في التوبة من خير وفضل من الله - تعالى -ولذلك أمر الله بها، فقال - تعالى -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التحريم 8، وقال - تعالى -(أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة 74 وقال - تعالى -(وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هود 3، وقال - تعالى -(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) هود 52، وقال - تعالى -(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) هود 90، ولذلك شدد الله - تعالى -على من لم يتب فقال - تعالى -(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) الحجرات 11
* ورمضان سبب لنيل الشرف، وهذا الشرف ليس في أعلى المناصب، ولا في جمع الأموال والاستكثار من التجارات لأنه موسم... نعم هو موسم... ولكنه موسم للبر والحسنات لا للريالات ولا للدينارات... نعم هو موسم... ولكنه موسم للبر والطاعات لا للمكاسب والتجارات.... فالشرف المقصود هنا هو شرف الخروج من قهر وذل المعاصي والانهزامية إلى عز الطاعة.
وأعلى درجات الشرف للمؤمن قيامه الليل ففي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) (7)، والقيام انتصاب القامة، ولما كانت هيئة الانتصاب أكمل هيئات من له القامة وأحسنها استعير ذلك للمحافظة على استعمال الإنسان نفسه في الصلاة ليلاً فمعنى قيام الليل المحافظة على الصلاة فيه وعدم تعطيله باستغراقه بالنوم أو اللهو، قال الزمخشري: قام على الأمر دام وثبت (8) وفى الحديث أيضا (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) (9) فالقيام وما أدراك ما القيام، ذلك البر الذي لما تركه المسلمون تركوا معه سببا عظيما من أسباب عزهم فالعز طريقه في أمرين:
(الأول): الأنس بالله ليلا والترهب له، وجمع القلب عليه والانكسار ليلا فيورث ذلك الإخبات والإخلاص، (والثاني): البذل والجهاد في الله نهارا في طلب العلا علما وعملا وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وهذا يورث الفداء والإباء.
* ورمضان نقطة تحول من سوء الخلق والفظاظة والأحقاد والغل وسوء الطوية وسوء معاشرة الزوجات والإساءة لهن، والنشوز على الأزواج وعدم طاعتهم، والخروج من كبر النفس، والتعالي بعضنا على بعض، وتقطيع الأرحام، والسعي في الأرض فسادا، وفحش اللسان والكذب والخيانة والغيبة والنميمة... وغير ذلك.. من السوء فنتحول من ذلك كله ومن كل خلق سيء، وكأن أيام هذا الشهر معسكرا تربويا، نقيم أنفسنا فيه على الأخلاق الحسنة، وهى فرصة عظيمة لتحصيل ذلك الخير الكثير، وذلك لأن حقيقة الصوم لا تقتصر على ترك شهوة البطن والفرج بل تتعداها إلى كريم الخلق، ونصوص السنة متكاثرة في تقرير هذه الحقيقة فقال - صلى الله عليه وسلم - (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ... الحديث) (10) وقال - صلى الله عليه وسلم - (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (11) قال البيضاوي: فنفى السبب وأراد المسبب وإلا فهو - سبحانه - لا يحتاج إلى شيء، وذلك لأن الغرض من إيجاب الصوم ليس نفس الجوع والظمأ بل ما يتبعه من كسر الشهوة وإطفاء ثائرة الغضب وقمع النفس الأمارة وتطويعها للنفس المطمئنة، فوجوده بدون ذلك كعدمه، فإن قيل: فيلزم الصائم القضاء إذا كذب قلنا: سقوط القضاء من أحكام الدنيا وهي تعتمد وجود الأركان والشرائط ولا خلل فيها فلا قضاء، وأما عدم القبول فمعناه عدم استحقاق الفاعل الثواب في الآخرة أو نقصانه وذلك يعتمد اشتماله على الكمالات المقصودة، وفيه كما قال الطيبي: دليل على أن الكذب والزور أصل الفواحش ومعدن النواهي بل قرين الشرك كما قال - تعالى -(فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) الحج30 وقد عُلم أن الشرك مضاد الإخلاص وللصوم مزيد اختصاص بالإخلاص فيرتفع بما يضاده (12).
* ورمضان فرصة كبيرة لتربية النفس وجهادها، ولابد للمؤمن من تربية النفس وتخليصها مما يهلكها، وأن يجعل من الدنيا سجن لها عما حرم الله وعما يفسد الدين وينقص الإيمان، وهى كذلك للمؤمن ولابد ففي الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم - (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) (13) قيل المؤمن صرف نفسه عن لذاتها فكأنه في السجن لمنع الملاذ عنه والكافر سرحها في الشهوات فهي له كالجنة.
ولذلك فالله لا يصطفى أهل المعاصي والتولي عن الحق ونصرته، المنهزمون في أنفسهم، الذين ذلوا لشهواتهم، وهو - سبحانه وتعالى - لا يأتي بهؤلاء العبيد لشهواتهم من أجل نصرة الدين، بل يأتي بمن يجاهدون أنفسهم بتربيتها على الحق والتخلص من أسر وقيود الشهوات والأهواء، حتى تخلص لربها فيختارهم ويأتي بهم لشرف الجهاد بالنفس كما قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المائدة: 54، ثم إذا أفلح العبد في مجاهدة نفسه فإنه يفلح -بإذن الله- في الجهاد سواء بالسيف أو باللسان، كما في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه) (14).
مواقع النشر (المفضلة)