خلل في التدين !
حينما يصاب مفهوم التَّدَيّن بالْخَلَل ، أو يَحصل فيه نَقص فإن - مَفهوم التَّدَيّن - قد يُقْصَر على المظاهِر ..
وإذا أُصِيب - مفهوم التَّدَيّن - بالضُّمُور فإنه قد يُدَّعَى أنه مَقْصُور على ما في الصُّدُور !
وهو في كِلا الحالين بين جَفاء وتقصير .
أما التَّدَيّن الصادق التام فهو ما يتمثل في المظهر والمخبر
في الظاهر والباطن ..
في القول والفعل .. يُصَدِّق أحدهما الآخر .
وإذا بَحَثْتَ عن التَّقِيّ وَجَدته رَجُلاً يُصدِّق قَولَه بِفِعَالِ
وسواء كان رجلا أو امرأة
فالتَّدَيّن يكون بِفِعْل الطاعات واجتناب السيئات
وبِتَرْك ظاهر الإثم كما يُتْرَك باطنه
فَيَجْتَنِب المتدَدَيِّن الفواحشَ والآثام الظاهرة ، ويَجْتَنِب الآثام الباطنة ، وربما كانت الآثام الباطنة أشد ضررا ، وأعظم خطرا ، وأكثر فَتْكًا بصاحبها وما يشعر بها ...
وما ذلك إلا لأن صاحب الفواحش يَخشى من أعين الناس ، أو مِن دَاء عُضال ، أو مِن مَرَض مُسْتَشْرِي .. وهو مع ذلك يشعر بتأنيب الضمير وزَجْر النَّفْس اللوامة ..
أما صاحب الآثام الباطنة والفواحش القلبية .. فهو بمنأى عن ذلك .. وإن فَتَكَتْ تلك الآثام بِمَلِك الأعضاء !
تأمل في فئات من المتديّنين تَجِد بينهم من خَطايا القُلوب ما يَقِف له شَعْر الرأس !
مِن تَحَاسُد وبَغْضَاء
أو أحْقَاد وشَحْناء
أو بَغْي بِقَولٍ أو بِفِعْلٍ ، أو بهما معا !
وهم - مع ذلك - يرَون أنفسهم من أهل الخير والصلاح ، أو يَعُدّون أنفسهم من أهل العِلم والفضل
ولو فَتَّشْتَ بعض زوايا قلوبهم لَوَجَدت أن بعض العُصَاة أسْلَم منهم قُلوبا - من تلك الجهة-
وأعني به أن بعض عُصَاة الظاهِر لا يَحْمِلُون ضَغينة في قلوبهم ، ولا يَحْقِدُون حِقْد جَمَل !
ولا يَبيت أحدهم إلا سَليم القلب على الْخَلْق ..
فانْحَصَرَتْ مَعْصِية بعضهم في الديوان المغفور ..
ولست أُهَوِّن مِن شأن المعصية ،ولكني أردت بَيان عِظَم وخَطر خطايا القلوب التي ربما غَفَلْنا عنها وعن إصلاحها .. بل وعن التوبة منها .
ولذلك كان تعاهد القلوب وإصلاحها أهَمّ وأولى مِن تَعاهد الظاهر ؛
لأن صلاح الظاهر لا يَلزم منه صلاح الباطن ،
أما صلاح الباطن فهو مُسْتَلْزِم لِصَلاح الظاهر .
وتأمل قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)
تَجِد أن حقيقة الإيمان وتحقيقه دارتْ على خمسة أعمال : ثلاثة من أعمال القلوب ، واثنين مِن أعمال الجوارح .
وَجَل القُلوب ، وزِيادة الإيمان ، والتَّوكّل ؛ هذه مِن أعمال القلوب .
وإقامة الصلاة والإنفاق ؛ مِن الأعمال الظاهرة .
ولأهمية أعمال القلوب قُدِّمَتْ ، وكانت أكثر وأولى من أعمال الجوارح ..
واعْتَبِر بِذلك بِصَلاحِ الأشجار ؛ فإنها إذا صَلَحَتْ آتت أُكَلها ، وإذا أصابها الخلل ضَعُفَتْ ثِمارها ، وإن بَدَتْ زَاهِية المنظر ، إلا أنّ حقيقتها تَتَجَلّى عند اختبار الطَّعْم !
ولذلك جاء مثل المؤمن والمنافق كمثل الأتْرُجّة والريحانة !
فالرَّيحانة طَيِّبَة الرائحة خبيثة الطَّعْم ، والأترجّة زَاهِية الْمَنْظَر طَيِّبَة الْمَخْبَر .
فكثير مِن خطايا الجوارح مُدوّنة في ديوان مَغفور ..
وكثير من خطايا القلوب مُدوّنة في ديوان مَزبُور ..
وفي الحديث : " الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة : ديوان لا يَعْبأ الله به شيئا ، وديوان لا يَترك الله منه شيئا ، وديوان لا يَغفره الله ؛ فأما الديوان الذي لا يَغْفِره الله فالشرك بالله ، قال الله عز وجل : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وأما الديوان الذي لا يَعبأ الله به شيئا فَظُلْم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، فإن الله عز وجل يَغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فَظُلْم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا مَحَالة " رواه الإمام أحمد ، وصححه بعض أهل العلم . ومَعناه صحيح .
خلاصة القول :
التَّدَيّن يقتضي صلاح الظاهر والباطن
والْمُتَدَيِّن يترك ظاهر الإثم وباطنه
وليس من شرط التدين العِصْمَة ولا السلامة من الخطأ ..
والتَّدَيّن استعفاف عن خطايا الجوارح وآثام القلوب
فكما يَحْفَظ المتدين سَمْعَه وبَصَره ويَده ورِجْله وفَرْجه عن الحرام ، فإنه يَحْفَظ قلبه عن الغِلّ والحسد وعن البغضاء والشحناء ، وعن البغي والعدوان .. لأن تلك الأخلاق هي أخلاق وطبائع اليهود . بل هي مما استأصَل في قلوبهم ..
قال ابن كثير في قوله تعالى :
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) وهكذا وَقَع لهم ، فإن عندهم مِن البخل والحسد والجبن والذّلّة أمْرٌ عظيم . اه .
وأفضل الناس " مَخْمُوم القَلْب " سَليم الطَّويّة ؛ وهو مِن أهل الجنة . قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أفضل ؟ قال : كل مَخْمُوم القلب ، صدوق اللسان . قالوا : صدوق اللسان نَعْرِفُه ، فما مَخْمُوم القلب ؟ قال : هو التَّقِيّ النَّقِيّ ، لا إثْم فيه ولا بَغْي ، ولا غِلّ ولا حَسَد . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني
قال علي رضي الله عنه : ليس من أخلاق المؤمن التملّق ولا الحَسَد إلاَّ في طَلَب العِلْم .
فاللهم ارزقنا قلوبا سَليمة .. لا إثْم فيها ولا بِغْي .. ولا غلّ ولا حسد ..
مواقع النشر (المفضلة)