بسم الله الرحمن الرحيم ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
لم أجد أصدق من وصف القرآن لأحداث غزة هذه التي نرقبها بكل ألم وحسرة وحزن؛ إنه يحدثنا عنها كما لو كان يتنزل على المجاهدين فيها اليوم، كان ذلك في سورة آل عمران، حيث أخبر:
- عن مصاب المؤمنين وجراحاتهم وثباتهم وتوكلهم على الله وصدقهم، ومقام الشهداء المجاهدين عند الله تعالى، الذين استجابوا لله مع ما بهم من قرح، وما نزل بهم من تخويف.
- وعن الموقف المخزي للمتخاذلين المخذولين الذين نكصوا ، مدعين الحكمة والفهم.
- وعن استدراج الله للكافرين المسارعين في الكفر، الذين يحاربون أولياء الله تعالى.
- ثم لم يدع ذكر قبح قول وفعل اليهود.. كل أطراف الصراع في معركة غزة ذكروا.
فأما المؤمنون فما أصابهم من أذى بكل أصنافه، من
الجراحات إلى هدم البيوت، حتى ذهاب أنفسهم وبنيهم
وأهليهم، إنما هو بإذن الله تعالى، ولو شاء لحماهم من كل
ذلك، وهو لا يعجزه شيء، لكنه تعالى يريد أن يصطفي
ويجتبي من عباده، ويقيم الدليل على إيمانهم وصدقهم،
ليتميز الصابرون المتقون المؤمنون المجاهدون، من
المنقلبين الذين يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خير
اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم.
وأكبر ما ينتظر المؤمنين في هذه المعارك هو قتلهم
شهداء، وهو أعز ما يكون من مقام؛ مقام يُعتز به، فليس
من مات حتف أنفه، على فراشه أو في حادث مركبة، أو
مات على ذنب، كمن مات يبتغي رضوان الله، يدافع عن
عزة الإسلام والأمة. وهو مقام الفرح والاستبشار لمن أقيم
فيه، فالشهيد ما أن يستشهد حتى يكرمه الله بما يتمنى به
لو رجع، فأخبر عن حقيقة ما يلقى المجاهد إذا قتل. ذلك
الموت الذي يخشاه كل إنسان، فيحزنه ويخيفه، يكون على
المجاهد عكس ذلك؛ فرحا واستبشارا.. كانوا من قبل
يسمعون عن وعد الله وثوابه سماعا، وها هم يرونه عيانا، ويتحسسونه بجوارحهم.
وفي هذا الحال جاء ذكر المنافقين، وموقفهم السيء المريب
من قضايا الأمة المصيرية، حيث أعرضوا عن الدفاع عن
المسلمين وبلاد الإسلام، ثم هم لا يكفون عن تخذيل
المجاهدين، وتخويفهم ليكفوا عن القتال والجهاد
والمقاومة، كيلا يقتلوا ويموتوا؟!!.. يبدون حرصا على
حياة الناس وممتلكاتهم، ليبدو المجاهدون وكأنهم ساعون
في إزهاق الأرواح والأنفس، يجرون الأمة إلى الهلاك والدمار بقتال العدو.
ويكذبون على أنفسهم والأمة بادعاء أنه لن يكون قتال من
قبل العدو، لتكون النتيجة تسليط العدو، وتمكينه من بلاد
المسلمين ودينهم وأعراضهم وأخلاقهم. يقول الله تعالى عن أحداث معركة أحد:
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ{166} وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ{167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{168} وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ{171} الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ{172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
أما الكافرون المعتدون، وهم في الآيات حين نزولها
المشركون واليهود، وفي أحداثنا اليوم هم الصهاينة - الذين
يؤمنون بأن فلسطين أرض أعطاها الله يهودا شعبه
المختار، وعليهم أن يجتمعوا فيها، ليتحقق وعد الله بنزول
عيسى ابن مريم عليه السلام وحكمه العالم - فإنهم في
كفرهم وافترائهم على الله تعالى لن يضروا الله شيئا.
وعلوهم في الأرض بالمال والقوة والمتاع والجبروت، إنما
هو بتقدير الله تعالى وإرادته وإملائه، حتى لا يكون لهم في
حظ في الآخرة، بل يكون لهم الإثم الكبير والعذاب المهين.
ثم عاد ليسلي المؤمنين ويخفف عنهم مصابهم، وأن من
سنة الله تعالى في عباده، أن يبتليهم بما شاء، ليكون
ثوابهم عنده يوم القيامة على قدر إيمانهم وثباتهم وصبرهم، قال تعالى:
{وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{176} إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{177} وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{178} مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ{179} وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
جاء ذكر اليهود بالخصوص، فذكر من قبيح قولهم في حق الله تعالى؛ أنه فقير – تعالى – وهم أغنياء، وقبيح فعلهم
في قتلهم الأنبياء، الذين هم رسل الله تعالى، ثم بيّن
صفاقتهم في الكذب، حيث لا يستحيون وهم يكذبون، مع
علمهم بأن لا أحد يصدقهم، فيزعمون أنهم إن كانوا
ليؤمنون لو أن الله أنزل عليهم ما أرادوا من الآيات.. فقد
أنزلت عليهم تلك الآيات وبما هو أعظم، فأين زعمهم؟.
ومن رأى كذبهم الصراح البراح علم صدق ما أخبر عنهم،
فكل العالم يرى مجازر غزة، وصور قتل الأطفال والنساء
تملأ الشاشات، والدماء في كل مكان ، ثم يخرج بيريز
رئيس دولة العدو – وغيره - ليقول إن جيشه لم يقتل طفلا واحد، ولم يستهدف المدنيين..!!.
من تجرأ فكذب على الله تعالى، ونكص وأخلف وعده، ثم
استباح قتل الأنبياء، هل كان ليتورع عن الكذب على العالم، ويستبيح دماء الضعفاء ؟.
{لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ{181} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ{182} الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{183} فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}
ثم جاء المقطع الأخير من هذه الآيات المخبرة عن أحداث
غزة، فيها بيان حقيقة مهمة، هي أن الموت يلحق بكل
إنسان، لا ينجو أحد من ذلك، فليست العبرة أن يموت إذن؛
لأن الكل سيذوقه ويتجرع سكراته لا خيار له فيه، إنما
العبرة في أمر آخر، يختار الإنسان طريقته وطريقه
بإرادته، هو أن يموت على خير وبر وطاعة لله تعالى، فهو
الذي يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، وكأنه يرجع بنا إلى
أوائل هذا المقطع، لما ذكر ما للشهداء من الثواب عند الله تعالى.
وفي الختام، ذكّر بأن أذى المشركين وأهل الكتاب من
اليهود والنصارى، ضرب لازم، لا يسلم منه المسلمون،
سواء مدوا أيديهم إليهم بالمصالحة، أو رضخوا إلى
مطالبهم وانصاعوا طائعين يبتغون رضاهم، فما لهم من
سبيل للسلامة من أذاهم إلا بالصبر والتقوى وجهادهم، ليس من طريق إلا هذا.
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ{185} لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
إن المجاهدين في غزة يدافعون عن الأمة، ليس عن
فلسطين وحدها والأقصى، لو كانوا عنها يدافعون لكان لهم
علينا حق، لكنهم درع المسلمين كلهم، فخذلانهم تمكين
للصهاينة من عموم بلاد المسلمين، إن كثيرا من مخططاتهم
مؤخرة لحين الفراغ من هذا القطر المسلم ذي الأرض
المقدسة، وكل ما أخبر به القرآن يؤكد أنه لا ضمانة في
وعودهم أبدا، لقد نكثوا وعودهم مع الله، فمع من سواه أسهل.
وإن أعجب ما يكون أن تجد من يحمل المجاهدين المقاومين
جرائم العدو الوحشية، بادعاء أنه لولا قتالهم ما حدث ما
حدث، وهذا يتضمن التعامي عما كان يفعله هذا العدو
بالمسلمين من قتل وحصار في فترة كف فيها المجاهدون
وهادنوا. كما أنهم يجهلون ما أخبر الله به عن طبائع هؤلاء
الصهاينة، ويبدو أنهم نسوا أن طريق التحرير وطرد
المحتل لا يكون بالأماني، بل بالمآسي، والله يعلم ذلك،
ولأجله خفف عن المؤمنين مصابهم، وكرر وأعاد في كتابه
أنه لا أسى عليهم في مقابل ما أعده لهم من الشرف في
الدنيا والآخرة. المجاهدون المقاومون أبطال ورموز في كل أمة، إلا عند هؤلاء فهم جناة.
لا يشترط في جواز قتال العدو مكافأته في العدد والعتاد، بل
القدرة على إعداد المستطاع من القوة، ثم القدرة على
النكاية في العدو وإيذائه كما هو يؤذي، ولو توقف الجواز
على المكافأة لما أمكن الجهاد في عصر ولا مصر، لأن العادة جرت أن العدو أكثر في كل شيء:
-
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ..}.
- {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ ..}.
منقووووووول
مواقع النشر (المفضلة)